كتب شاكر زلوم:
من أبواب مدينة القدس القديمة بابيّ العامود وباب الساهرة وهما بابان يقعان شمال سور القدس, باب العامود هو الإسم الدارج لهذا الباب بينما التسمية الحقيقية للباب هي باب دمشق وهو الإسم التاريخي له حيث اعتادت القوافل أن تتحرك منه نحو دمشق عبر الأزمان, باب العامود هو البوابة الأكثر استخداماً من قبل المقدسيين للوصول لأحياء القدس القديمة, أما باب الساهرة فيقع الى الشرق من باب العامود بمسافة أقدرها بحوالي الكيلو متر, سأتناول أبواب القدس في مقالات لاحقة لألقي الضوء على معالم مدينتي ومدينتكم التاريخية, لكنني اليوم سأتناول حي الشيخ جراح حيث أمضيت بعضاً من طفولتي لوجود مدرستي الأساسية فيه.
حي الشيخ جراح هو أحد أحياء القدس خارج أسوار القدس القديمة ويقع الى الشمال من باب العامود, حيث يتم الوصول اليه عبر شارع نابلس و كما يمكن الوصول للحي من باب الساهرة عبر شارع صلاح الدين و هو الممتد نحو الشمال الغربي من باب الساهرة و حيث يلتقي الشارعان يبدأ حي الشيخ جراح, تسمية حي الشيخ جراح أتت نسبة لمقام ضريح طبيب صلاح الدين الأيوبي, الشّيخ حسام الدين الجراحي، الذي لُقِّب باسم الجرّاح، و لهذا سُمّي هذا الحي بإسمه و أقيم بجانب الضريح جامع صغير عُرف بجامع الشبخ جراح.
على بعد عشرات الأمتار من جامع الشيخ جراح شمالاً, كانت تقع مدرستي الابتدائية "مدرسة خليل السكاكيني", التسمية أتت نسبة لعلم من أعلام فلسطين والقدس وهو الأديب الفلسطيني خليل السكاكيني, المتخصص بكتابة أدب الأطفال وبكتابة الكتب التعليمية التي اعتمدتها وزارة التربية والتعليم الاردنية بفترة الخمسينات من القرن المنصرم.
في المدرسة كانت لنا ذكريات لا تُنسى, ففي يوم الأربعاء من كل أسبوع كانت تمر عربة تموين مصفحة تابعة للجيش الصهيوني, تأتي عربة التموين الصهيونية من بوابة المندلبوم وسط شارع نابلس وشارع نابلس هو الشارع الواصل من باب العامود وصولاً لحي الشيخ جراح, كانت بوابة المندلبوم تربط بين القدس الغربية المحتلة منذ العام 1948 والقدس الشرقية التي كانت تحت الحكم الأردني, ببوابة المندلبوم قتلت عصابات الصهاينة "الأرغون والهاجاناة" المندوب الأممي السويدي الكونت برنادوت في عام 1948,,
كانت العربة الصهيونية المصفحة تنقل التموين والسلاح لموقع تابع للجامعة العبرية في التلة الفرنسية, ولم لو تكن تصل عربات التموين والإمداد لسقط هذا الموقع وما توفرت لها سبل البقاء.
في كل يوم أربعاء كنا نستعد لإستقبال عربة التموين الصهيونية المصفحة بتجهيز الحجارة استعداداً لقذفها, حيث كان يتصادف مرورها خلال فسحة الصباح وغالباً ما كان مدير المدرسة يلاحقنا و يتوعدنا بالويل و الثبور وعظائم الأمور حرصاً على وظيفته وهيبته كمدير للمدرسة أمام السلطات المعنية بحينه.
الى الغرب من جامع الشيخ جراح كان يوجد فاصل من الأسلاك الشائكة بفصل قدسنا عن قدسنا السليب وكانت مساحة من الأرض أسموها بالأرض الحرام, هي أرض طاهرة ومقدسة وما هي بحرام لكن ارادة أبناء الحرام أرادت تسميتها بهذه التسمية, الارض التي سميت بالحرام كانت تمتد لعشرات من الأمتار.. كنا نشاهد أطفال الصهاينة يتدربون من خلال مُدرب على استعمال السلاح, كنا ننظر لأطفال الصهاينة بغيط ونتساءل, كيف يتدرب أبناء لقطاء الكيان على السلاح بينما حُرم علينا اقتناء السلاح والتدرب عليه؟؟.
كان من يُعثر بحوزة ذويه على أي قطعة سلاح فمصيره السجن, قوانين كانت بريطانيا قد فرضتها على الفلسطينيين في عهد انتدابها, بوقت كانت فيه تمد الصهاينة بكل أنواع الأسلحة و كانت تحكم بالإعدام على من امتلك مجرد مُسدس من الفلسطينيين, استمر العهد اللاحق بتطبيق القوانين العسكرية البريطانية على أهل فلسطين, لا سيما و أن قائد الجيش بل الجيوش العربية التي شاركت بحرب تسليم فلسطين بالعام 1948 هو كلوب باشا, كان الضابط البريطاني المجرم كلوب باشا يعمل بكل ما أوتي من قوة على تسهيل احتلال فلسطين وتسليمها للصهاينة ويمكن للمهتمين بمعرفة هذه الحقبة من التاريخ العودة لكتاب الضابط الاردني البطل عبدالله التل والكتاب بإسم, "كارثة فلسطين" وهو متاح على الشبكة العنكبوتية ويمكن تحميله مجاناً, الكتاب يسرد يوميات الحرب وبطولات أفراد قدمت جماجمها قرباناً على مذبح الدفاع عن القدس وفلسطين.
أمام مشهد تدريب أبناء لقطاء الصهاينة على السلاح المستفز لنا كأطفال, كنا نقوم برميهم بالحجارة وغالباً ما كنا نُلاحق من قبل بعض الجنود المولجين بحماية الحدود مع العلم أن كره الجنود للصهاينة لم يكن أقل من كرهنا لهم, لكنها أوامر كلوب باشا اللعين التي استمرت حتى الى ما بعد طرده في العام 1956, طُرد كلوب نتيجة للحراك الشعبي الوطني القوي المطالب بطرده في ضفتي الاردن بحينه.
كان جامع الشيخ جراح بلا سماعات في حينه وكان الشيخ يقوم بالصعود على درجات المئذنة ليصدح بالأذان وبعد ذلك يقوم بإمامة النفر القليل من المتواجدين في المسجد نتيجة لكون المنطقة شبه خلاء, إلآ من بعض البيوت في حينه, لم يخلو الأمر من شقاوتنا كأطفال فكنا نصعد درجات المئذنة لنؤذن أحياناً وبمرات كنا نجد تسليتنا بالتحرش بالشيخ المسكين وهو في أعلى المئذنة, كأن نغلق بطريقة طفولية باب المئذنة عليه, أسأل الله أن يسامحنا على شقاوتنا التي لو علم بها أولياء أمورنا لوبخونا و عاقبونا.
كانت بجوار مدرستنا تقع القنصلية السعودية وقريب منها كان يقع فندق الامبسادور و على بعد عشرات الأمتار الى الشمال, كان يقع المستشفى الفرنسي للعيون والى الغرب من المستشفى كانت تقع مدرسة عبدالله بن الحسين الأول الإعدادية.
بإنتهاء حي الشيخ جراح تقع الى شرق الشارع العام منه, العيسوية, العيسوية قلعة المقاومة والصمود حالياً, على الشارع العام شمالاً حي شعفاط ومن ثم حي بيت حنينا الجديد و وصولاً لمنطقة الرام وبعدها قلنديا حيث يوجد مطار القدس الدولي الذي أُنشئ في العام 1922 ,
كانت مدرجات المطار تقطع الشارع العام الواصل بين القدس ورام الله, كم من المرات انتظرت وسائط نقلنا لمرور الطائرة ومن ثم لتستكمل مسيرها الى مدينة رام الله.