الديموقراطية نظام سياسي قائم على مشاركة الشعب للسلطة في الحكم، عن طريق انتخابه ممثلين له يقدمون برامج انتخابية ، ويمارسون دورهم في الرقابة والتشريع على ضوء الدستور.
و الديموقراطية لها مقومات مهمة حتى تتحقق المشاركة الشعبية على أحسن تمثيل، ومن أهم مقومات الديموقراطية:
.١ دستور نافذ الصلاحية ويحقق الاتزان في الحقوق والواجبات بين السلطات الثلاث والشعب، يضعه أبناء الوطن وفق مقاييس الوطن لا مقاييس الخارج.
.٢ تمثيل نيابي لكل مكونات الشعب.
.٣انتخاب حر لمكونات الشعب على أساس برامج يقدمها المرشحين والأحزاب، التي يفترض أن تكون في مصلحة نهضة البلد ، و المواطن وتطوير الخدمات والتعليم.
.٤ فصل السلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية.
.٥ وجود معايير ضبط للترشيح أهمها معيار الكفاءة والاستحقاق، لا الانتماء العصبوي ولا الولاء للسلطة.
.٦ قدرة البرلمان على ممارسة دوره الرقابي والتشريعي بشكل دستوري، يحقق الهدف من وجوده كمجلس تشريعي رقابي ممثلا للشعب الذي يعتبر شريكا في السلطة.
.٧ الجميع ) السلطات الثلاث، الشعب، النظام( متساوون أمام القانون.
٨. قانون انتخابي يستبعد المحاصصات الطائفية والعصبوية والحزبية، ويستحضر الانتماء للوطن، ويتم استفتاء الشعب عليه بعيدا عن أي توجيه حزبي أو إعلامي.
هذه أهم مقومات الديموقراطية، وبجلّها يمكن تسمية النظام السياسي بالنظام الديموقراطي الذي يحقق نسبة مشاركة عالية بين مكونات المجتمع بكافة انتماءاته، ويُمَكّن الشعب من المشاركة الحقيقية في السلطة، فيصبح واقعا مصدرا للسلطات.وفي الدول الديموقراطية أيضا تكون السلطة القضائية سلطة مدنية خاضعة لمؤسسات الدولة ولدستورها وقوانينها التي شارك الشعب في وضعها، برلمان وانتخابات.
وهذا التوصيف في الديموقراطيات المتقدمة، والتي تطور فيها النظام السياسي وفق تجربة سياسية متراكمة، وتطور فيها وعي الشعب والنخب مع تطور التجربة وممارستها.
أما في الديموقراطيات الناشئة، هناك مبدأ ديموقراطي آخر يشبه مبدأ المشاركة في الشكل خاصة في الانتخابات وصناديق الاقتراع، لكنه يختلف معه في الأهداف التي يراد الوصول إليها، هذا المبدأ يسمى مبدأ المغالبة، وهو مبدأ يتحقق بطريقة الاقتراع والتمثيل الشعبي، لكنه يعتمد على غلبة الأغلبية العددية في الانتخابات، أو غلبة ميزان القوة والتحالفات السياسية وفق أهداف مختلفة بعضها يصب في صالح الوطن والشعب، وبعضها يصب في رصيد الحزب ومحازبيه وأجندتهم الخاصة، و في كل الأحوال تكون الديموقراطية وسيلة للوصول إلى مراكز السلطة، ويبدأ غالبا النواب المنتخبين بتنفيذ أجندتهم الخاصة بهم سواء كتحالفات سياسية أو تحالفات حزبية، والتي تارة تمثل ذاتها كإيديولوجيا والمنتسبسن إليها، وتارة تمثل الوطن والشعب. وبين المشاركة والمغالبة السياسية شبه كبير واختلاف جوهري.
يكمن التشابه بين المشاركة والمغالبة في :
١. يتحقق كلاهما عبر مبدأ الديموقراطية كنظام سياسي.
٢. صناديق الاقتراع هي الوسيلة التي تعبر فيها الجماهير عن وجهة نظرها واختيار من يمثل وجهة النظر هذه.
٣.التحالفات السياسية والتي تؤثر على نتيجة الانتخابات.
الفارق الجوهري بين الشكلين هو:
أن المشاركة غالبا تنبني على أساس برامج إصلاحية، و يكون فيها الناخب متحرر إراديا في الاختيار لوجود استقرار سياسي واجتماعي وتحقق عدالة اجتماعية إلى حد كبير، بالتالي تكون خياراته متعددة في ظل دولة متحققة في الخارج، تقوم بواجباتها اتجاه المواطن، ووجود برلمان يقوم بدوره في التشريع والرقابة، ونسبة فساد ضعيفة جدا في الدولة، وسلطة قضاء مستقلة تطبق القانون على الجميع، فهنا تتوسع الرؤى وتصبح إمكانيات المشاركة الحرة دون توجيه أكبر بحيث يعبر الشعب عن خياراته ويحاسب في صنادق الاقتراع، ويكون مبدأ الكفاءة والاستحقاق هو المهيمن في عملية التوظيف والتوزير والانتخاب وليس المحاصصات القائمة على الانتماءات المذهبية والطائفية والحزبية.
أما المغالبة فتحدث في أجواء غياب الدولة عن أداء دورها اتجاه المواطن، وانتشار الفساد، وعدم وجود عدالة اجتماعية مما يؤدي لوجود طبقية اجتماعية يتحكم فيها قلة بالاقتصاد والسياسة، ووجود تهديد إقليمي مستمر للدولة، أي غياب استقرار اجتماعي وسياسي في الدولة، وحضور التوازنات الطائفية والمذهبية والحزبية، بحيث تترجح الكفة السياسية في هذه الظروف وفق مبدأ المغالبة، التي تعبر عن ذاتها في صناديق الاقتراع وتتحول اللعبة السياسية إلى لعبة عددية، تغيب في ظلها مبدأ الكفاءة والاستحقاق، ويحضر مبدأ الحاصصات.
فالمشاركة، تحقق المشاركة الشعبية الحقيقية بكافة الأطياف، وتفعل الدستور بتشريع قوانين لا تخرج عنه، وبممارسة دورها الرقابي ، وتحقيق التنمية المستدامة للدولة وللشعب ، بينما المغالبة هي استبداد أكثرية عددية مع غياب واقعي لبرامج إصلاحية، أو خطط لمواجهة الفساد، وحضور المناكفات السياسية والخلافات الإقليمية على حساب الداخل الوطني، حتى لو خالفت هذه الممارسات الدستور، مستخدمة صناديق الاقتراع لتمارس استبدادها السياسي المبطن بالديموقراطية.
ولكن هل هذا متحقق في أغلب الدول العربية وخاصة في لبنان؟
هل يوجد في لبنان استقرار سياسي واقتصادي ودولة بمفهوم الدولة الحديث؟ أم أن الفهم السياسي المرتكز في الأذهان قائم على أساس المغالبة وإن تلبس بلباس الديموقراطية كوسيلة ؟
وبقراءة سريعة لوضع لبنان نجد:
١. لبنان جغرافيا يقع على حدود فلسطين المحتلة، حيث يقوم الكيان الصهيوني ذو الأهداف التوسعية، والعقلية الاستبدادية التي تنظر للمحيط باستعلاء ديني وحضاري، ويعطي لنفسه حق القيادة والإقصاء والإلغاء، وقد سبق لهذا الكيان الغاصب واحتل لبنان من الجنوب إلي بيروت، ومن ثم انسحب إلى الجنوب، وبعد ذلك اندحر تماما من لبنان بسبب المقاومة التي استطاعت أن تلحق به هزيمة عسكرية كبيرة، كانت الأولى من نوعها في المطنقة منذ احتلاله لفلسطين على أيدي مقاومة عربية لبنانية.
٢.نظام لبنان رغم وجود دستور، إلا أنه دستور وضعته فرنسا (المستعمر القديم للبنان) بعد احتلال فلسطين أو أثناء الانتداب البريطاني لها، أي وفق مقاييس تُبقي لبنان بلدا غير مستقرا ومنشغلا بداخله قائما علي نظام طائفي، ونتيجة الحروب الأهلية والاحتلال الصهيوني، عادت قيامة لبنان بعد الحروب على أساس نظام الطائفية السياسية وكان بمثابة تجرع السم أو معالجة السم بالسم.
٣. هناك تهديدات خارجية حقيقية بعد تحرير لبنان من الكيان الصهيوني، هذه التهديدات متعددة الأطراف ولكن تقودها جهة واحدة هي أمريكا التي تعتبر أمن الكيان الصهيوني امتدادا لأمنها القومي وتولي له أهمية قصوى حتى على حساب مصلحة شعبها الداخلية، فتحولت ساحة لبنان إلى ساحة صراعات وتصفية حسابات إقليمية.
٤. هذه العوامل مكنت زعامات سياسية لها تاريخ دموي أو غير وطني، بعضها استقوى بالشارع والسلاح، والتهديد بالعودة إلى الحرب الأهلية، وبعضها استقوى بطائفته ومذهبه ونسبته العددية وبشارعه المؤيد له عدديا، وبعض آخر استقوى بسلطة المال وهيمنته على الاقتصاد والسوق.كان الضحية في كل ذلك الشعب الذي يعيش معاناة القهر والفقر ونقص الخدمات، وانتشار الفساد والأمراض حتى وصل الأمر لانتشارالنفايات، وارتفاع منسوب التلوث البيئي، وغيرها من المقومات التي تدفع بالشعب للانفجار.
إذا مقومات التحرك الشعبي توافرت وتراكمت، ومعها فساد النظام السياسي، وملابسات الواقع الإقليمي المعقد والذي يهدد وجود لبنان برمته، وبدا المشهد سرياليا ومعقدا، فبينما المطالبة بمواجهة الفساد محقة ومستحقة، والخطر الخارجي على وجود لبنان أيضا قائم وبأشرس حالاته، فإن الحكمة تقتضي الموازنة بين الأمرين، مع وضع خطة للاصلاح المرحلي المستديم لتحقيق مبدأ الدولة المدنية العادلة القوية، مع توافر مقوماتها الداخلية، لكن تحتاج تكاتف جهود وعدم تخوين وإقصاء، وتحتاج خطة مرحلية قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى، وتحتاج رقابة مستديمة للتطبيق، ومواجهة صارمة مع كل من يحاول إفساد الخطة أو ممارسة الفساد من داخل هذه الخطة، خاصة المتسلقين تحت حجة الاصلاح والتغيير.
إن أي عملية إصلاح تتطلب بعدين:
١. بعد داخلي
٢. بعد خارجي
وكلاهما ضروريان لتحقيق هدف الاصلاح والتغيير، وأي تغليب أحدهما على الآخر هو حرف للمسار عن هدفه.
لذلك المطلوب اليوم وضع خطة مشاركة كاملة لا تقصي أحدا ولا تنكر مجهود أو تضحيات أحد، قدمت للوطن والمواطنين على أي صعيد، سواء صعيد عسكري، أو علمي، أو سياسي، أو إصلاحي.
فلا ترفع شعارات إقصائية بحجة الإصلاح، خاصة أننا اليوم حققنا بالمقاومة إنجازات كبيرة هي لصالح لبنان، ويجب أن نحقق بما نملكه من عقول علمية إنجازات علمية أيضا تصب في صالح لبنان، فنحن لدينا مقاومة قوية، وجيش مكين، ولدينا عقول فاعلة ومنتجة، ولدينا طبيعة ساحرة، أي لدينا مقومات قيام دولة قوية عادلة، فأي إقصاء لأي مقوم من هذه المقومات هو عبارة عن إقصاء لرأي ومواطنين بعضهم دفع الدم لأجل لبنان.
فقانون المغالبة الذي يستند عليه عادة أغلب زعماء السياسة في لبنان، من خلال إما استقواءهم بالخارج وانصياعهم له، أو من خلال استقواءهم بلغة التهديدات الأمنية بضرب الاستقرار الداخلي أمنيا واجتماعيا. لا يمكنه الغلبة على مبدأ التعددية والتعايش الفسيفسائي في لبنان.
كون الأول قانون وضعي قابل للتجاوز والإلغاء سواء باحتراق ورقتهم من قبل الخارج، أو بانتهاء صلاحيتهم الداخلية شعبيا وانكشاف رؤوسهم للناس، والثاني مبدأ ثابت رغم كل ما مرت به لبنان من مهاترات وحروب دولية على أرضها، إلا أن الجميع أفل نجم تآمراته عليها وثبت فقط مبدأ التعددية بقيم التعايش والتسامح، ومبدأ المشاركة الحقيقية المتوائمة مع التعدد التاريخي في لبنان.
فتجاوز شركاء الوطن قد يجرنا لانتحار حقيقي في ظل انحسار دور الدولة، وتقصير مؤسساتها في القيام بواجبها اتجاه الشعب، خاصة فيما يتعلق بالخدمات التي هي أقل حق للشعب على الدولة مقابل ما يدفعه من ضريبة مادية ومعنوية.
أي إصلاح وتغيير عليه أن لا يهمل الجانب الإقليمي لصالح الجانب الداخلي، وعليه أن لا يهمل الجانب الداخلي لصالح الجانب الإقليمي، لأن لبنان هو جغرافيا داخلية محاطة بجغرافيات محيطة قلقة وغير مستقرة، ولكي يكون لبنان دولة منيعة هو بحاجة ماسة لمعادلة قوية لا تقصي مراكز قوته المنيعة، التي تحفظ وجوده الجغرافي مستقرا، ولا تقصي مقوماته الداخلية التي تنهض به كدولة بمفهوم الدولة الصحيح.
لبنان محكوم بالتعددية ولا يمكنه أن يتجاوزها بقانون الغلبة والاستقواء بالخارج، فتاريخ الحروب وما تلاها يثبت ضعف قدرة الخارج أمام صلابة قوة الداخل اللبناني.