قبل عامين، اعترف الرئيس دونالد ترامب رسمياً بالقدس عاصمةً لإسرائيل، الأمر الذي اعتبره العديد من الخبراء و السياسيين عملاً غير مسؤولاً وخطيرٍ وقاسي, ألحق أضراراً جسيمة بحقوق الفلسطينيين ، ووضع حدًا لأي ادعاءٍ بأن الولايات المتحدة يمكن أن تساعد في الوصول إلى حلٍ للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني.
فمنذ بداية "عملية السلام" الحديثة، كان هناك عنصرين قاتلين أعاقا جميع الجهود لإنهاء الصراع الذي دام لعقود، و هما عدم تناسق القوة لصالح إسرائيلو والتحيز الأمريكي الواضح في دعم إسرائيل.
لقد أكد الاعتراف الأمريكي أحادي الجانب بالقدس على كلا العيبين, فباتخاذه تلك الخطوة القاتلة، حكم ترامب مسبقاً على واحدةٍ من أكثر القضايا حساسيةً في النزاع لصالح إسرائيل، مقوياً العناصر الأكثر تشدداً في إسرائيل، ومعرضاً الزعماء الفلسطينيين والعرب الذين وضعوا ثقتهم في دور الولايات المتحدة في التوسط لحل الصراع للخطر . حيث أوضح قرار الاعتراف بالقدس كعاصمةٍ لإسرائيل أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تكون وسيطاً نزيهاً لفي عملية السلام .
فقضية مدينة القدس التاريخية ذات حساسية ويجب أن لا يتم التعامل معها بهذا الأسلوب فهي ليست مجرد مدينة، فهي مدينةٌ مقدسة في روايات الديانات الإبراهيمية الثلاث، المسيحية, الإسلام واليهودية . ولهذا السبب، فإن مهندسي قرار التقسيم 181 في الأمم المتحدة لعام 1947 دعوا لقيام دولةٍ يهودية وأخرى عربية, أما القدس فوضعوها جانبا,ً كمنطقةٍ دولية.
ولهذا السبب بالتحديد، عندما احتلت إسرائيل الجانب الغربي من المدينة بعد الحرب العربية الإسرائيلية المسماة بال العاصمة لها ، لم يعترف المجتمع الدولي بهذا القرار من جانب واحد.
و قد ضاعفت إسرائيل من إجرامها في عام 1967 عندما قاموا بعد احتلالهم لبقية فلسطين ، بضم مساحةٍ كبيرة من الأرض الفلسطينية ، بما في ذلك عدداً من القرى الفلسطينية و بعض الأراضي العربية الحدودية، كنتيجةٍ لحرب الأيام الستة وأعلنوا القدس الغربية والشرقية بأكملها "القدس الكبرى" عاصمةً أبديةً لإسرائيل غير مقسمة و غير قابلةة للمساومة عليها .
لقد أدانت الأمم المتحدة بالإجماع هذا الانتهاك الصارخ للقانون الدولي ، و في هذا السياق ، يضع إجراء ترامب طابع موافقة الولايات المتحدة على سجل إسرائيل الذي دام 70 عاماً من انتهاكات القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة.
و بالنسبة للعرب والمسلمين في جميع أنحاء العالم ، أصبحت القدس رمزاً قوياً يمثل قرناً من خيانة الغرب للعرب . فمثلها مثل قضية فلسطين نفسها ، فإن ذكر القدس يثير الوعود المكسورة ، والاحتلال الوحشي من قبل القوى الإمبريالية والاستعمارية ، وفقدان السيطرة على التاريخ وإنكار الحقوق الأساسية.
حيث يشبه بعض الأمريكيين في كثيرٍ من الأحيان أن قضية القدس للعرب والمسلمين وسلبها منهم ، يشبه مذبحة ونديد في عام 1890 للأمريكيين الأصليين. وربما لم تكن قبيلتهم متورطةً بشكلٍ مباشر في الوحشية الشائنة التي تعرض لها أولئك الذين قُتلوا في تلك المجزرة ، لكنهم يستطيعون فهم المأساة التي حدثت ونزع ملكية التاريخ الجماعي والأذى المستمر. فالقدس هي الجرح الغائر في قلب العرب والمسلمين الذي لن يشفى أبداً. و ترامب ، بقراره القاسي و الغير عقلاني ، برأ إسرائيل فعلياً من جرائمها واعتراف بشرعية سيطرتها على المدينة عن طريق اعلانه المتهور، فما قام به و كفرك الملح في هذا الجرح و فتحه من جديد .
لذلك ، كان من غير المعقول البتة أن يقوم الرئيس الأمريكي بعد قراره المستفز بمناشدة الفلسطينيين بأن يظلوا هادئين وسلميين. فقد كان في الواقع كالذي يقول: لا يهمني ما عانيت منه، ولا يهمني إن كنت التصرفات الإسرائيلية ظالمةً أو غير قانونية، لكن عليك الجلوس و تركهم يستولون عليها بصمت!.
فبينما كان قرار ترامب يعجب مؤيديه المسيحيين الإنجيليين اليمينيين، فقد تجاهل مشاعر المسيحيين في فلسطين. ففي بيانٍ صدر في اليوم السابق لإعلان ترامب ذاك، ناشد بطاركة وأساقفة الكنائس المسيحية الشرقية ومقرها القدس بعدم الاعتراف بمطالبة إسرائيل بالاستيلاء على المدينة، وقد تجاهل ترامب تلك المناشدات ضارباً إياها بعرض الحائط.
وأخيراً، هناك واقع الحياة اليومية للفلسطينيين في القدس وما حولها.فبعد أن فصلت القدس الشرقية إلى حدٍ بعيدٍ عن بقية الضفة الغربية، سارعت إسرائيل في سياسة خنق حياة العرب في القدس، وذلك من خلال الحرمان من العمل، وهدم المنازل وسرقة الأراضي، وإخضاع الفلسطينيين لمجموعةٍ من السياسات التمييزية التي تنتهك حقوق الإنسان الأساسية، حيث يتم اختبار القدرة على التحمل السكان العرب الفلسطينيين في القدس الشرقية يومياً في ظروفٍ أقل ما يقال عنها بأنها قاسية و غير إنسانية .
لقد كان صمت ترامب بشأن هذه الأمور، في الوقت الذي أنهى فيه خطابه ذاك بتاريخ السادس من ديسمبر قبل عامين قائلاً: " فليبارك الرب الفلسطينيين" أجوفاً تماماً و فارغاً من المضمون ، و قد كان أشبه بذر الرماد في العيون متجاهلاً كل شيء .
فبينما يتذكر الأمريكيين يوم 7 ديسمبر، تاريخ الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربر، باعتباره "يوماً سيء السمعة"، يشعر العرب والفلسطينيون بنفس الشيء بتاريخ 6 ديسمبر من كل عام ، وهو التاريخ الذي وجه فيه الرئيس دونالد ترامب ضربةً قاضية ومصيرية للسلام و العدالة في الأرض المقدسة.