الموجة الخامسة؛ المواطن  العالمي عنوانا للهيمنة, التربية والتعليم, الجزء الثاني\ مشهور سندس
دراسات و أبحاث
الموجة الخامسة؛ المواطن  العالمي عنوانا للهيمنة, التربية والتعليم, الجزء الثاني\ مشهور سندس
27 أيار 2020 , 19:25 م
   هل كانت الإجراءات المتسارعة نحو رقمنة التعليم والتعليم عن بعد نتيجة أم ستكون سببا بتكريس شكل وغاية جديدة للتعلم؟ ما الشكل الجديد لتلاميذ المواطنة العالمية، وهل سيتوقف التواصل الفيزيائي ويستبدل بالا

   هل كانت الإجراءات المتسارعة نحو رقمنة التعليم والتعليم عن بعد نتيجة أم ستكون سببا بتكريس شكل وغاية جديدة للتعلم؟ ما الشكل الجديد لتلاميذ المواطنة العالمية، وهل سيتوقف التواصل الفيزيائي ويستبدل بالافتراضي مما يحول دور المعلم أو المربي إلى ميسر و موجه؟ هل سيغيب النشيد الوطني ويستبدل بنغمة البرنامج الرقمي الترحيبية.

    بحسب وثيقة لليونسكو فقد عرف الأمين العام السابق للأمم المتحدة السيد بان كي مون المواطنة العالمية "بأنها المجال ذو الأولوية الثالثة في مبادرة التعليم  العالي، ويضيف أن التعليم لا يقتصر فقط على أن يتعلم الطلاب كيفية اجتياز الاختبارات والحصول على الوظائف في بلدانهم لكن أن يغرس في أذهانهم أهمية الاحترام والمسؤولية عن البلدان والثقافات والمناطق. وقد جاء في مقدمة الدليل الذي طرحته اليونسكو بعنوان التربية على المواطنة العالمية ما يلي: لقد أثار عالم يزداد عولمة أسئلة حول ماهية المواطنة الهادفة وحول الأبعاد العالمية للمواطنة. أن مفهوم المواطنة التي تتجاوز الدولة القومية ليس جديدا، إلا أن التغيرات في السياق العالمي - على سبيل المثال، الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، ونمو المنظمات عبر الوطنية والشركات وحركات المجتمع المدني وتطوير  إطار عمل القانون الدولي لحقوق الإنسان - تترك آثار  مهمة على صعيد المواطنة العالمية. مع ذلك،فإنه لا بد من الاعتراف أن ثمة اختلافا  في وجهات النظر حول مفهوم المواطنة العالمية بما في ذلك، على سبيل المثال، إلى أي مدى تشكل امتدادا  وتكميلاً للمواطنة التقليدية المحددة في إطار الدولة القومية، أو إلى أي مدى تتنافس معها.

لا شك في أن المواطن العالمي ترسم ملامحه منذ أكثرمن ثلاثة عقود، وتفردت مؤسسات كبرى بنشر دراسات وأبحاث حوله، واستخدمت منصات تابعة لمؤسسات المجتمع المدني للترويج له مثل IDN-InDepthNews والتي احتفت بمجموعة من المقالات والتغطيات لاجتماع جوهانسبرغ والذي دعا للمشاركة بين مؤسسات المجتمع المدني لعقد مؤتمر" نحو حركة المواطن العالمي؛التعليم من القاعدة الشعبية "، وقيام مشروع DEEEP ( أحد المشاريع التي  التي تقوم المنظمة الأم للمجتمع المدني الاوروبي "concrd" بتنفيذها وهي منظمة تعمل على  بناء القدرات بين منظمات المجتمع المدني وتحمل راية الدعوة للمواطنة العالمية) بتنظيمه وحضره 200 مشارك وتزامن عقده مع (أسبوع المجتمع المدني العالمي) عام 2014،وقد كرس الاجتماع جهده للتركيز على أن الطريقة الرئيسية في معظم الدول سوف تكون من خلال نظام التعليم الرسمي. وبهذا فإنه يمكن للحكومات أن تقوم بدمج المفهوم كجزء من البرامج القائمة أو كمادة مستقلة، وقد عقدت برامج  تدريبية بدول عربية منها الأردن تحت عنوان تنمية المواطنة العالمية وتهدف الى التركيز على " السلم العالمي، حقوق الإنسان، التكنولوجيا، الإنسان والبيئة،الديمقراطية، التفكير العلمي، الثقافات المتعددة " كذلك فقد شكلت هذه المقولات الاساس لجميع المناهج المعتمدة في التدريس ولكافة المراحل التعليمية.

 

     وحيث أن التربية والتعليم هما أساس تشكل وعي الانسان؛ فقد لعبت البرامج التعليمية المختلفة - مثل نظام البكالوريا الدولية ذي الانتشار الواسع و صاحب الرؤية المتطابقة مع الرؤية الليبرالية للتعليم- دورا بارزا في تعميم وخلق المواطن العالمي وقد جاء في رسالته ما  نصه: "تهدف البكالوريا الدولية الى تطوير الشباب ذي الذهنية الاستعلامية، المطلعين، المتعاطفين مع الآخرين، والذين يساعدون على خلق عالم أفضل وأكثر سلما من خلال التفاهم والاحترام ما بين الثقافات المتنوعة. ولتحقيق هذا الهدف، تعمل المنظمة يدا بيد مع المدارس والحكومات والمنظمات الدولية لتطوير برامج تعليم دولي تتسم بالتحدي وتتمتع بتقييم دقيق جدا،تشجع هذه البرامج الطلاب في  أنحاء العالم ليصبحوا متعلمين نشطين ومتعاطفين مع شعور الآخرين ولكي يستمروا في التعلم مدى الحياة مدركين أن الأخرين على اختلافاتهم قد يكونوا على صواب أيضا" ،ونكاد نرى انسجاما تامّا بين هذه البرامج ورؤى اليونسكو حول المواطن العالمي، إذ جاء على  لسان أحد المتحدثين في المنتدى الثاني لمنظمة اليونسكو حول المواطنة العالمية قوله:" فإن الهدف من )التعليم من أجل المواطنة العالمية( هو "إمداد المتعلمين من جميع الفئات العمرية بالقيم والمعارف والمهارات القائمة على غرس احترام حقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية، والتعددية، والمساواة بين الجنسين، والاستدامة البيئية؛ تلك الأدوات التي تمكِن المتعلمين من أن يصبحوا مواطنين عالمين على قدر المسؤولية".

 

    ولعلّ من أبرز  المجالات التي أظهرت النتائج على أرض الواقع، انخراط الطلاب في المدارس التي تتبنى هذه البرامج في أنشطة شبيهة بعمل مؤسسات المجتمع المدني، تتمثل في مبادرات وفعاليات مجتمعية، تعد جزءا من البرنامج التعليمي، وتتمحور في معظمها  حول قضايا البيئة، والمساواة بين الجنسين، ومكافحة  الفقر وحقوق اللاجئين، لتنتهي ببرامج التبادل الثقافي الذي يفرض أحيانا على الطلبة الانخراط في أنشطة تطبيعية، فمؤسسة (بذور السلام) هي واحدة من النماذج الكثيرة، لكنها الأنشط والأبرز، حيث يتعرض الطلبة لمحتوى فكري قد يكون غيرمراقب و يتعارض مع القيم الوطنية الثابتة.

 وتظهر التجربة أن كل شكل من أشكال التشبث بالهوية الوطنية يصنف صاحبه بالانغلاق والعنف، مما يضع الطالب الغض أمام خيار الانخراط بالمشروع  السائد أو الإقصاء. ومن المهم الإشارة إلى أنّ هذه الفعاليات بدأت تنسحب نحو الموسسات الحكومية، فقد ظهرت في الفترة الأخيرة موجة من الأنشطة المشابهة والمبادرات الحكومية برعاية وزارات التربية والتعليم ووزارات الثقافة في الوطن العربي. وكأن روح المواطن العالمي لم تعد مرتبطة بالبرامج الأجنبية، إذ يتمّ تبنيها حكوميا لتصبح روحا جديدة في ثقافة المجتمع عنوانها الأساس قبول الآخر وإن كان محتلاً للأرض أو ناهبًا لمقدرات الشعوب.

وبما أن التربية سابقة على التعليم جاءت كل الرؤى الدولية لتنسجم مع تربية المواطن العالمي منذ المقعد الدراسي الذي هو أيضا (اي المقعد) تغيرت الغاية منه بظل التعلم عن بعد والتعلم الرقمي الذي يسعى بل ويكرس مفهوما جديدا للمعلم والذي اصبح ميسرا أو موجها. وقد يكون لهذا أثر مع الوقت على اختيار المعلم ومدى تدخله بالمنهاج التعليمي الذي بدأ يأخذ شكلا جديدا يقوم على ترك الحرية للطالب بالبحث والإبحار حول عنوان ستفرضه الجهات التي تشرف على تطوير المناهج المرقمنة بما ينسجم مع غايات من مصلحتها تربية روح العالمية، وسينعكس ذلك على الأثر الذي يتركه التواصل المباشر مع المعلم ويكون الطالب – إن لم يتغير هذا المصطلح- متواصلا مع العالم أكثر من تواصله مع صاحب الفضل عليه وفق المفهوم  التقليدي للمعلم .

في عام  2017 خرج تقرير بعنوان" التعلم الرقمي التربية والمهارات في العصر الرقمي "  لمحة عامة حول الندوة الاستشارية المعنية بالتعلم الرقمي والتي عقدت بالتعاون مع معهد كورشام . وفي بند (المربون والمتعلمون تغيير الأدوار والمسؤوليات في السياق الرقمي) عرف المربي بأنه وفي ظل العصر الرقمي قد أصبح موقعه أكثر ميوعة ومعالمه أقل وضوحا: من يربي من؟. وناقش المشاركون كون المرء مربيا لم يعد محدودا بالدور التقليدي للمعلم وأن هناك رؤى تذهب في سياق التعلم الرقمي يوضع التشديد على ما يتم تلقيه لا ما يتم تقديمه. وأيدت إحدى المجموعات المشاركة استبدال مفهوم التربية بمصطلح التعلم بحجة أن الاخير يكلف المتعلم بدور أكثر نشاطا بدلا من المربي؛ وهو أمر يتفق مع الدراسة التي أعدتها مؤسسة (راند) التي أشرفت على وضع المناهج العراقية بعهد بريمر، وطورت وتعمل على تطوير المناهج لأكثر من دولة عربية وتتخذ من قطر مقرا لها، تضع من خلاله السياسات التعليمية لترسيخ رؤى العالمية ، ويتحول التعلم المستمر باستخدام التكنولوجيا الرقمية الى شكل جديد من التسليع والتداول حسب ما تتطلب حركة السوق العالمي ، وتنتفي فكرة التخصص سوى ضمن تخصصات علمية بحتة تحتمه كالطب والهندسة وعلوم الفضاء، وما دون ذلك فما على الانسان سوى أن يبحر بالشبكة الرقمية وينهل منها.

 لم تعد هنالك حاجة للتعليم من أجل التوظيف، ولم تعد الحكومات ملزمة بالتوظيف في زمن "اعمل من بيتك وضع هويتك جانبا"، فولي نعمتك في قارة أخرى وما أنت سوى يد عاملة رخيصة معولمة، وحتى رغبتك بالهجرة لتحسين وضعك فهو خيار بات بعيد المنال الا في حدود الهجرة بسبب الازمات والحروب التي تديرها ذات المؤسسات التي تسعى لترسيخ مفهوم المواطن العالمي منذ المقعد الدراسي. مع ملاحظة غياب الحديث عن واقع مجتمعك الا بالحدود الدنيا، والقيام بممارسة أدوار اجتماعية خالصة هي بالأساس دور الدولة تجاه المجتمع، وباسم السلم العالمي وحقوق الانسان والانسان والبيئة ...الخ من العناوين يتلاشى المنهاج الوطني الذي يزرع لدى الطالب روح المواطنة المؤمنة بقيم امتها، وبالطموح بأخذ دور بصناعة الفعل العالمي لا البقاء رهنا لرغبات الشركات الكبرى التي تدخلت حتى بأدق تفاصيل شكل الكراس المدرسي، واحيلت لاستثمارات شركاتها الثانوية مهمة تحديد المناهج التي تتواءم مع طموحها المتوحش النيوليبرالي.

ليس الهدف من طرح مفهوم المواطن العالمي في التعليم هو التقليل من قيمة الانفتاح والتفاعل، أو الدعوة لمجتمعات منغلقة، بقدر ما هو تنبيه لخطورة الاندماج غير المدروس والمقطوع عن البيئة المحلية، فما نراه اليوم من تغوّل ثقافي، تقوده الدول التي تتحكم بالإعلام، يمكننا مواجهته بالتشبث يالهوية الوطنية، والثقافة المحلية، وليس أهم من المدرسة والمنهاج المدرسي في حمل هذه المهمة على الاكتاف، لذا يقع التنبيه في موضع جرس الإنذار على هيئة سؤال كبير، ماذا لو خسرنا هذه المساحة كاملة في الدفاع عن التنوّع الذي ما انفكت اليونسكو تدافع عنه.

 

 

المصدر: وكالات+إضاءات