كتب الأستاذ حليم خاتون: ماذا تريد أميركا، ج٢
٢٨-١١-٢٠٢١
ربما يجب علينا قبل محاولة فهم ماذا تريد أميركا، أن نفهم ماذا تريد الشعوب العربية، وتحديدا ماذا تريد المقاومة ومن خلفها، ماذا يريد محور هذه المقاومة...
حتى الآن، يبدو أن كل الضغط يجري باتجاه أن توافق اميركا على إعطاء هذا المحور مكانا لائقاً في النظام العالمي الذي تتحكم أميركا بكل مفاصله؛ سواء كان هذا في المحادثات النووية، أو في فك الطوق والحصار عن المجتمعات التي تحتضن هذه المقاومات...
هل هناك إمكانية كي تعود اميركا إلى "رشدها!!" كما يعتقد حتى بعض قيادات محور المقاومة وكما يظهر جلياً من طريقة إدارة الصراع...
للإجابة على هذا، علينا الإنطلاق ربما من فهم جوهر النظام العالمي الذي تقوده أميركا اليوم بعد أن قادته قبل ذلك مجموعة دول الإستعمار التي اجتمعت في أوائل القرن الماضي في بريطانيا في مؤتمر كان سرياََ وأطلق عليه إسم مؤتمر كامبل نسبة إلى الوزير البريطاني الذي دعا إليه...
طرح كامبل يومها أمام الدول الإستعمارية السؤال التالي:
كيف يمكن الإحتفاظ بديمومة السيطرة على المستعمرات..؟
تم تحديد ثلاث مناطق تشكل خطراً على هذه الديمومة لما تحمله من إرث ثقافي وحضاري وديموغرافي... وهي المنطقة الصينية، المنطقة الهندية، والمنطقة العربية...
يمكن القول أن مؤتمر كامبل هذا، هو من وضع لبنة النظام العالمي الجديد الذي لا يزال على قيد الحياة رغم الكثير من الاحداث التي مرت وأثرت عليه وعلى مجراه دون أن تغير من الهدف الأساس له،
الحفاظ على المصلحة الإستعمارية العليا...
تم رسم استراتيجيات تقسيم، وحروب مختلفة لديمومة هذه السيطرة في المناطق الثلاث...
نجح الشيوعيون الصينيون في المحافظة على البر الصيني دولة موحدة، ثم استعادوا هونكونغ، وهم في طريقهم لاستعادة تايوان، دون أن تتعب اميركا من محاولاتها التي لا تتوقف في إثارة القلاقل والنزاعات، حتى يخال المرء أن حالة المسلمين الإيغور في الصين تدمي قلوب بايدن وماكرون وجونسون...
في شبه القارة الهندية، كانت الأمور أكثر سهولة لدول الاستعمار بفضل التعدد العرقي الهائل، والتعدد الديني...
لعب البريطانيون لعبة الأغلبية الهندوسية والاقلية المسلمة، وساعدهم في ذلك النزعة الفوقية بكل أسف، التي تعامل بها محمد علي جناح الذي كان يمثل مصالح طبقة التجار المسيطرة والتي كانت تضم الكثير من المسلمين، تجاه الطبقات الفقيرة والمعدمة التي كان معظمهم من الهندوس، وذلك بفضل اعتناق الملوك وعلية القوم وكبار المثقفين للدين الإسلامي الذي لم يدخل الهند غازياََ، بل دخل عن طريق التجارة والدعوة و"التبشير" بالمعنى الإسلامي للكلمة...
مثلا على هذا، الشيخ الجليل محمد علي خاتون الذي هاجر من بلدة جويا العاملية إلى تلك الاصقاع وصار وزيرا عند المهراجا، وله في المتحف البريطاني نصيب، وأحد احفاده، محمد خاتون استشهد منذ بضعة شهور دفاعا عن استقلال إقليم كشمير على ايدي جنود وميليشيات مودي، رئيس وزراء الهند الحالي الذي يتحالف ويتعلم من الصهاينة طرق الإستيطان والمصادرة والتطهير العرقي والإبادة الجماعية...
يمكن تشبيه جناح محمد علي جناح في شبه القارة الهندية بالمارونية السياسية في لبنان التي عملت على فصل معظم الجغرافيا اللبنانية المعاصرة عن بلاد الشام لتأسيس دولة لبنان الكبير، وكانت هي أيضا ولا تزال إلى اليوم تنظر بفوقية إلى الآخر سواء داخل الوطن أم خارجه...
هكذا انشق جناح عن حزب المؤتمر الهندي، وأسس الرابطة الإسلامية التي عملت على تقسيم شبه الجزيرة الهندية بين الهندوس الذين لم يخل معسكرهم هم أيضاً من المتعصبين العنصريين، والمسلمين الذين أسسوا يومها دولة باكستان من مجموعة عرقيات منتشرة في شبه الجزيرة وافغانستان وآسيا الوسطى مع كل ما رافق هذا التقسيم من مجازر ونزاعات أهلية وترانسفير وتطهير عرقي...
حتى إسم باكستان هو عبارة عن الاحرف الاولى لأسماء العرقيات الكبرى في هذه الدولة الوليدة، حيث الباء مثلا تعود إلى العرق الباشتوني... الخ
لكن النجاح الاكثر بروزا في المشروع الإستعماري الإمبريالي، كان في المنطقة العربية...
تم تقسيم هذه المنطقة إلى أكثر من عشرين دولة، معظمها لا تاريخ منفصل لها ولا وجود لمقومات إقامة دولة في داخلها من الأساس...
كما تمت تقوية النزعات المذهبية بين المسلمين شيعة وسنة وعلويين وبياضة وغيرهم إلى جانب العمل على وضع دساتير طائفية ودينية لفصل المسيحيين العرب ومحاولة محو هويتهم العربية وإلحاقهم بالعقلية الغربية، لما كان يمثله هذا الوجود المسيحي في الجسم العربي، من ضمانة ورافعة لبروز قومية عربية تختلف عرقيا عن بقية أعراق المسلمين، دون أن تعاديهم...
عمل الاستعمار على تطويق هذه المنطقة العربية بمجموعة من الدول وضعوا على رأسها أنظمة عميلة لهم كي تلعب دور البوليس لشعوبها، لمنع أية إمكانية لقيام نهضة اقتصادية او تعاون بين هذه "الميني دول" إلا ضمن الرؤية الإستعمارية كما هو مثلاََ مجلس التعاون الخليجي...
هكذا رأينا إيران الشاه، وتركيا اتاتورك من الشرق والشمال يلعبان دور البوليس الذي يمنع قيام ثورات عربية، أو سقوط رؤساء وملوك وأمراء يحرص الغرب على بقائهم، والعمل على التحرش بالأنظمة الوطنية التي وصلت عن طريق الجيش إلى السلطة وتحمل في نهجها أفكاراً وعقائد تحررية ووحدوية...
كانت إيران الشاه هي زعيمة الخليج، وسط ركوع وسجود الملوك والأمراء لسلطتها، بينما عملت تركيا أكثر من مرة على التحرش بالنظام الوطني القائم في بلاد الشام وما بين النهرين...
اتفق الشاه وتركيا على إخضاع العراق ومنع أي ظهور لدولة قوية عادلة وديمقراطية هناك...
إذا كانت الثورة الإسلامية في إيران قضت على بوليس المنطقة من الجهة الشرقية، فإن البوليس التركي لم يهدأ، ومن أهم أعماله في ضرب اي إمكانية لقيام نهضة عربية هو تدخله الإرهابي وتواجده التخريبي في بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين على حد سواء، وقيامه ببناء خمسة سدود عملاقة خارج القوانين الدولية للتحكم بالمياه في العراق وسوريا على حد سواء والعمل على القضاء على الزراعة والصناعة وحتى التسبب بتلوث
الأنهار في البلدين للقضاء على مقومات الحياة كما يجري مع نهر دجلة ومدينة البصرة...
حتى في الجهة الجنوبية ظلت أثيوبيا وأوغندا تلعبان دوراََ تخريبياََ من الجنوب فترة طويلة إلى ان نجحت في تقسيم السودان وها هي اثيوبيا تهدد عبر سد النهضة شريان الحياة لكل من شمال السودان والدولة المصرية...
لكن اخطر المشاريع الإستعمارية في المنطقة العربية يبقى بلا أي ادنى شك:
إقامة كيان في قلب الأمة يقسم المنطقة العربية إلى قسمين، إفريقي وآسيوي، ويعمل على منع أي تلاقِِ بينهما، وبالاخص منع قيام أي علاقة أو تعاون أو وحدة بين بلاد الشام ومنطقة حوض النيل، اللتان شكلتا على مدى التاريخ وحدة أمبراطورية قوية يمكن ان تسيطر وتعمل على إعادة الوحدة إلى المنطقة العربية بجناحيها الآسيوي الغني جدا بالطاقة والمعادن والمياه، بعد تحرير هذه المياه من الهيمنة التركية، والجناح الإفريقي الغني بدوره بكميات لا بأس بها من الطاقة والمياه والثروات الزراعية والحيوانية، حتى قيل ان السودان وحده يستطيع إطعام العالم العربي كله إذا تحررت الرساميل من الهيمنة الغربية، بينما تعتبر موريتانيا خزان الأسماك والبروتين لهذا العالم...
هنا كان دور الكيان الصهيوني في قلب جسد الأمة، في فلسطين...
لكن الكيان يختلف جذريا في الطبيعة عن الآخرين...
المشاكل الناشئة أو التي قد تنشأ مع الدول المجاورة للعالم العربي، هي مشاكل حدودية قد تنشأ بين الدول المتجاورة كما حال كندا واميركا أو أميركا والمكسيك أو فرنسا وبريطانيا هذه الأيام...
لكن إسرائيل هي شيء آخر...
الصراع مع اسرائيل ليس على الحدود كما يتوهم البعض...
الصراع هو على الوجود، وعلى كنه هذا الوجود...
غداً... تفاصيل عن التشابك بين الكيان والإمبريالية الأميركية وهوية رأس المال الإمبريالي، وحتمية الصراع من أجل التحرر..