بعدَ الخريفِ، قبلَ الشِّتاء..
حاضِرٌ أنا و غائِبٌ.. زائِرٌ و جليسٌ آناً واحِداً؛
مَلموسٌ لا مَرئِيٌّ و باطِنِيٌّ ضَعيفُ الظُّهور..
قد أرى نَفسي وَصِيَّةٌ لِبيتٍ بِجُدرانٍ ضَبابِيَّةٍ..
أو رُبَّما أُرَجِّجُ أنَّني ضيفٌ هُنا، يعيشُ مُعاكِساً للنَّاسِ على سقفٍ زُجاجِيٍّ؛
تارَةً يَكونُ ذو لا مَعنى، و تارَةً أُخرى يغيبُ في ثِقلِ وطأَتِه..
راحَلاً، غيرَ مُلتَفِتٍ بَتاتاً!
لهُ بَصيرَةٌ ثابِتَةٌ لا حَصيلَةَ لِغِرارِ شَكٍّ قَد تَعتَليها.
يُمسي بِطَيِّ ساعاتِ النِّهايَةِ،
وَ يُخَبِّئُ ظِلَّهُ طَمعاً بِامتِلاكِه يوماً.. روحاً لا تَبكي قبلَ أن تنام..
فَالباكِيونَ هُم المُهاجِرون المُهاجِرون!
و أَنا الَّذي أرى غياضَ اسمِيَ في سَماءِ الهاوِية،
و أَتوهُ بينَ السَّائِرينَ في جَنازَةِ المُسافِرِ!
أنا الكاتِبُ، اللَّاجِئُ..
أنا الَّذي وُجِدَ ضائِعاً..
و نَتسَاوَى؛ أنا و أنتَ، و على ذاتِ العَقيدَةِ نحنُ أمامَ مِرآةِ واقِعنا..
"نَصمُتُ، و نذرِفُ انعِكاسَ الدَّمعِ على أخطائِنا اللُّغَوِيَّةِ في الجِدارِيَّاتِ المُؤَجَّلةِ."
مِن ثُمَّ يُقِرُّ كُلُّ بينَهُ و بينَ "الأَنا"، بِحِوارِ مَجهولٌ بادِئُه، مَكشوفَةٌ بِدايَتُهُ؛ تَتَجلَّى بِحُكمِهِ على نَفسِهِ بِحيرةِ الكِتمان..
فَهُوَ لن يَلتَفِت بَتاتاً، لَكِنَّهُ سَيمدَحُ حيناً و سَيذُمُّ حيناً آخرَ!
و بعدَ ذَلِكَ يُفتي أحدُهُهما باعتِبارٍ ثابِتٍ،
أنَّهُ بِأوجِ قُوَّتِهِ ليسَ إلَهَ نَفسِهِ وَلا هَواه..
فَيُقطَعُ الحِوارُ؛
و أتوارى أنا، عن أشهادِ قَلبي، و عَن أبراجِ هذِهِ الأرض..
ثُمَّ قَسراً و إكراهاً و إلزاماً، تَهوي الأقنِعَةُ قِناعاً تِلو الآخر،
أمَّا عَن هذا الوقت! أَ آنَ الأوانُ أم بَعد؟
فَغَرائِزُ الرَّحيلِ تَقولُ بِأنَّ العُيونَ لا تُفارِقُ وَلا تَموت؛
هِيَ خامِسُ الجِهاتِ الأربع الَّتي لن تنزِحَ يوماً، وَ لَن تنزاحَ أبدَ الدَّهرِ و الأَمَدِ مِتراً!
ذاكَ لِأنَّ ثِقَتَها تَكمُنُ في عبَثِها،
وَ في فقهِها و أنانِيَّتِها كُلُّ ما بِداخلِها لَها و كُلُّ ما حولَها مِن حَقِّها..
هِي ضِدَّ الحِواراتِ و تأبى النِّقاشات!
هِيَ تَحفِرُ خندَقاً يُشبِهُ التَّابوتَ و حُفرةَ القَبرِ و تَجلِسُ إلى جانِبِه آبيةً النَّظَرَ إليه.. كَي لا تُفاوِض الزَّمَن!
فَيُعاتِبُها الزَّمَنُ بِسؤالِه: "لِماذا؟"
لَكِن أُجيبُ أَنا، نِيابَةً عن مَن سَقَت بأُجاجِها ياسَمينَ الوِجنَتَين؛
" لِأنَّ الجِناسَ الَّذي بينَ الأَلَمِ و الأَمَلِ ناقِصٌ!"
وَ أَنا، نَعم أَنا الَّذي أقولُ لِنَفسي أَنا؛
عَلى الوَديعَةِ عينِها، أعيشُ بينَهُما قَهري..
على الرِّسالَةِ عقُبِها أنا كفيفٌ يتيمُ الثِّقةِ..
أبحَثُ عن الوَطَنِ تحتَ وِسادَتي وَ في عُروقِ أجفاني!
أمَّا بَعدْ؛ فَسَلاماً على غريبٍ لَم يُعرَفْ،
و مَرحبَاً بِالأثيرِ الماكِثِ على أسوارِ هذهِ البِلاد..
وَ نَحنُ الأجدَرُ بالشَّهادَةِ، نَحنُ الظَّاهِرونَ الغائِبون؛
مَن لَم يَسمَعوا الطَّلقَةَ، لَكِنَّهُم رَؤوا الشَّهيدَ..
وَ كُلٌّ مِنَّا مالِكٌ لِهَذِهِ الأَرض، مَيِّتٌ على قيدِ شُعورِه!
وَلا نِهايةَ، فَهَل نحنُ وُجِدنا؟
"قَادِمونَ على طريقِ الرَّحيلِ،
مُغادِرونَ على سبيلِ العَودةِ!"حاضِرٌ أنا و غائِبٌ.. زائِرٌ و جليسٌ آناً واحِداً؛ مَلموسٌ لا مَرئِيٌّ و باطِنِيٌّ ضَعيفُ الظُّهور.. قد أرى نَفسي وَصِيَّةٌ لِبيتٍ بِجُدرانٍ ضَبابِيَّةٍ.. أو رُبَّما أُرَجِّجُ أنَّ