نحو ويستفاليا مرحلية في لبنان جزء٣
دراسات و أبحاث
نحو ويستفاليا مرحلية في لبنان جزء٣
  حليم خاتون
10 كانون الأول 2021 , 22:04 م


يحرص النائب الكتائبي السابق إدمون رزق على أن لبنان تأسس وخلص... هو لا يحتاج إلى إعادة تأسيس...

نفس هذا النائب وكل الذين يولولون، حين يسمعون عن عدم قدرة النظام القائم على التقدم أي خطوة فعلية الى الأمام؛ نفس هؤلاء يولولون ويرفضون العودة إلى التاريخ ليروا بأم العين أن لبنان في الحقيقة لم يتأسس من الأساس، وأن كل ما جرى هو أن المستعمر الفرنسي قام بإيجاد دولة مسخ على قياس الزعامات الدينية والدنيوية التي تواجدت في ذلك الحين...

وضع المستعمر الدستور الأول لهذه الدولة التي اتخذت لنفسها صفة جمهورية سنة ١٩٢٦...

كما دائما كان المستعمر يحرص على إقامة نظام طائفي مذهبي.

ما فعله الفرنسيون قبل مئة عام في لبنان، حاولوا فعله في سوريا يومها...

لكن في لبنان تواجد تجار يعملون في السياسة وفي الدين، ولم يكن في البلد أمثال رجل سوريا الكبير فارس الخوري الذي رفض كما الأغلبية العظمى من السوريين، مسيحيين ومسلمين، الذين خرجوا إلى الشوارع رافضين تقسيم سوريا المعاصرة إلى أربعة دول مذهبية:

سُنية، وعلوية، ومسيحية، ودرزية...

نجح السوريون يومها في الحفاظ على وحدة الدولة رغم خسارتهم المقاطعات الأربع التي تم ضمها إلى لبنان، ومقاطعة الاسكندرون التي أخذها المستعمر وضمها إلى تركيا ثمنا لسكوت اتاتورك عن المطالبة بوراثة السلطنة العثمانية...

أعاد الاستعمار الكرة في العراق ونجح في إقامة جمهورية بريمر التي لا تزال تتحكم بالسلطة في العراق منذ الغزو، وفشل حتى اليوم في إخضاع سوريا رغم استمراره عبر أدواته في قسد وفي عرب أميركا الموجودين في التنف وفي المناطق الخاضعة للاحتلال التركي...

منذ اليوم الأول لقيام هذا النظام الطائفي في لبنان، حرصت فرنسا على استمالة المسيحيين عن طريق الرابطة الدينية، حيث قامت الإرساليات ببناء مئات المدارس في المناطق المسيحية، وقامت بتعيين المسيحيين في معظم وظائف الدرجة الأولى، دون أن يعني هذا إهمال المسلمين الذين كانوا يمشون حسب مشيئتها...

هكذا رأينا مثلا أن الشيخ محمد الجسر كان أحد من تبوؤا منصب رئاسة الجمهورية قبل الاستقلال...

إذا اعتبرنا إعلان دولة لبنان الكبير سنة ١٩٢٠، هو التأسيس الأول، والجمهورية الأولى تحت الانتداب مع دستور ١٩٢٦ الذي وضعه هذا الانتداب، فماذا عن ١٩٤٣، ماذا عن الإستقلال مع ميثاق بشارة الخوري ورياض الصلح الذي كرس صيغة ٦ و ٥ مكرر، بناءً على إحصاء أجرته سلطة الانتداب سنة ١٩٣٢ وخرج بموجبه أن المسيحيين يشكلون أغلبية سكان لبنان...

هل كان هذا هو التأسيس الثاني والجمهورية الثانية؟

ثم ماذا عن احداث ١٩٥٨ التي منعت كميل شمعون من التجديد، ومنعت لبنان من الإنضمام إلى حلف بغداد المعادي للتيار العروبي الناصري الذي كان جارفاََ في تلك الأيام؟

هل يمكن اعتبار حقبة فؤاد شهاب التي تميزت بإصلاحات جوهرية وإقامة دولة المؤسسات بدل دولة المزارع التي كانت قائمة والتي سرعان ما عادت على يد الحلف الثلاثي المؤلف من الكتائب والاحرار والكتلة الوطنية؛ هل يمكن اعتبار حقبة شهاب، وبعده شارل الحلو التأسيس الثالث والجمهورية الثالثة؟

لا يمكن لأي كان عدم رؤية الفرق الكبير بين حقبة فؤاد شهاب وكل الحقبة التي سبقتها منذ إعلان غورو وحتى سنة ١٩٥٨...

أما إذا أصر الطائفيون على ركوب رؤوسهم وعدم رؤية هذه الفروقات، فإنهم بالتأكيد لن يستطيعوا تجاهل حاجز الطائف الذي اجتمع بموجبه أمراء الحرب من كل الأطراف، مع بقايا النظام القديم الذي سيطر على أمور الدولة من ١٩٢٠ حتى ما بعد اندلاع الحرب الأهلية؛ اجتمع الجميع في مدينة الطائف "السعودية"، وقرروا بخبث حصر كل مشكلة الدولة في التغيير الديموغرافي في أعداد الطوائف...

هل يصر هؤلاء على أننا مع دستور الطائف وكل التغييرات التي حصلت بموجبه كنا لا نزال نعيش في نفس التأسيس الأول والجمهورية الأولى؟

مهما أصر هؤلاء، لا يمكن تجاهل أنه في كل مرة كان يتأزم وضع النظام، ويصل إلى طريق مسدود، ولا يستطيع الإستجابة لدعوات التغيير، كان هذا النظام يضع رتوشاََ تمكنه من الاستمرار في الحياة بضعة سنين أخرى...

ربما هؤلاء محقين في أمر واحد:

هذا النظام وهذا التأسيس، وهذه الجمهورية... كل هؤلاء؛ بقوا في نفس المستنقع الطائفي المذهبي الذي وضعهم فيه الإستعمار منذ عهد المتصرفية، مرورا بالإنتداب، ثم الإستقلال، والطائف، وصولا إلى يومنا هذا...

نفس هذا النظام الطائفي أصر على نفس النهج الإقتصادي القائم على الدولة/المصرف/ الكازينو...

لا بل مع الطائف، زاد هذا النهج قوة مع فريق المقاولين الآتين من عالم ال Affaires، وتوزيع نسب من الأرباح من أجل السطو على المال العام...

اعتاد رفيق الحريري على الأمراء والملوك الذين كانوا يعطونه المشاريع ويختبؤون خلف اسمه واسم شركاته في تكديس الأرباح الفاحشة على حساب المال العام في الجزيرة العربية...

الخبرة في هذا النهب الذي اكتسبه الحريري في السعودية، طبّقه في لبنان، حيث كان يزيد أكلاف المشاريع أضعافاً مضاعفة لكي يستطيع إرضاء امراء الحرب وأمراء الطوائف، وأمراء الاديان، كما كان يرضي سابقاً أمراء مملكة "الخير" الزائفة، في السعودية...

في هذا الأمر، هم فعلا محقين.

كل تلك الحقب كانت تحمل نفس الفايروس الذي يؤدي إلى أزمات تتوالى كل بضعة سنين...

ولأن ذهنية الطبقة الحاكمة لا تزال تحمل نفس الفايروس المذهبب/ الريعي... حيث تتراوح المشكلة في ذهن هؤلاء بأن أي مؤتمر لتجاوز الأزمة سوف يكون بانتزاع نسبة من السلطة من المسيحيين لإعطائها للمسلمين، وانتزاع حصة من اقتصاد الريع من المسيحيين واعطائها للمسلمين...

فبعد ٦و٥ مكرر، وصلنا الى ٦و٦ مكرر (أي المناصفة)، وها أن البعض بدأ الحديث عن المثالثة لأن أعداد المسيحيين تناقصت إلى الثلث بفضل الهجرة والولادات الكبيرة عند المسلمين...

كما سمحت المناصفة لرفيق الحريري بالسيطرة على الكثير من مقدرات الدولة واستطاع انتزاع جزء من السوق والشركات، خاف المسيحيون أن تأتي المثالثة لتقضي على جزء آخر من الاحتكارات التي حصلوا عليها تاريخياً بفضل المتصرفية ثم الانتداب ثم دولة المارونية السياسية... حيث كانت كل المشاريع يجري تنفيذها حصرا في المناطق المسيحية ما رفع أسعار الأراضي والعقارات هناك وسمح للمسيحيين بامتلاك أساس رأس المال اللازم من أجل إقامة الشركات الاولى التي ما لبثت أن صارت شركات احتكارية...

جاء رفيق الحريري وبدأ بالزحف والسيطرة قدر الإمكان...

نجح في الكثير...

رغم فشله في ضرب قانون الاحتكار الذي سعى إليه ليس من أجل الشعب والفقراء، بل من أجل انتزاع جزء من هذه الاحتكارات من ايدي المسيحيين وتجييرها لنفسه ولمن حوله بما في ذلك مسيحيي الأطراف الذين كانوا على هامش دولة المارونية السياسية هم أيضاً...

الطرفان مخطئان في تشخيص الأزمة وفي تشخيص الحل...

أساس المشكلة ليس فقط في الغبن المذهبي ولذلك فإن أي إعادة لتوزيع مغانم الدولة على الطوائف لن يكون سوى تمهيدا للأزمة القادمة وربما للحرب الاهلية القادمة...

كما أن معالجة الأزمة والانهيار الذي لحق تقتضي الخروج من عمليات توزيع الدولة مغانماََ على الطوائف، والإستمرار في سياسات المحاصصة بين زعماء هذه الطوائف...

كذلك يجب الانتهاء من اقتصاد التبعية للخارج ورفض منطق أن يكون لبنان سوقاََ استهلاكية للآخرين...

في الحالتين، أي الطائفية واقتصاد التبعية، سوف تبقى الطبقة الحاكمة هي من يسيطر ويسير بالبلد من أزمة إلى أزمة أخرى...

انتقلنا من نظام المارونية السياسية التي قادتنا إلى الأزمة ثم إلى الحرب، لنقع بين براثن السُنية السياسية التي تصرفت مثل الأغنياء الجدد (nouveaux riches)...

فراحت تتصرف كما "القاشوش" في نهب كل شيء دون حتى ترك فتات للناس...

"اللي مش قادر" على تأمين دخل أعلى، يترك بيروت ويذهب إلى بشامون وعرمون وانطلياس"

بيروت يجب أن تصبح موناكو لبنان والمنطقة...

مع أن الظروف لا تبدو سانحة لبروز شيعية سياسية، إلا أن الحقيقة تفرض القول إن هناك بين الشيعة من يحلم على الأقل، بذلك...

كل من سوف يطالب يوما بالمثالثة، متهم سلفاً بالسعي إلى نوع من الشيعية السنية السياسية.

هذا سوف يؤدي إلى خراب البلد، وإلى حروب بين الطوائف والمذاهب لن تنتهي إلا إلى كوارث ومجازر وسيطرة الرعاع وامثال الدواعش والنصرة...

سوف يكون هذا نفقاََ يشبه ما عاشته سوريا ولكن على أسوأ...

في سوريا، الدولة المركزية قوية جدا، والرئيس السوري كان قد الحمل...

أما عندنا في لبنان، الدولة المركزية مهترئة، الجيش بالكاد يستطيع الصمود أما التجييش الطائفي والمناطقي، أما الرؤساء الثلاثة فهم دود الخل... هم اصل كل البلاء...

في لبنان نواجه مشكلة عويصة...

لا بد من إقامة دولة مدنية كاملة الأوصاف...

لكن من يستطيع بناء هذه الدولة؟

المجتمع المدني اظهر إما عجزاً غريباً، وإما خضع لنفس القوى والأفكار الطائفية والمذهبية...

الأحزاب الكبرى كلها دون استثناء لا تريد الدولة المدنية، إما لأسباب دينية تافهة، وإما لأنها هي نفسها أحزاب دينية تقوم على العصب المذهبي...

نحن لن نخرج من الإنهيار إلا إذا قمنا بعقد مؤتمر تأسيسي تشارك فيه كل القوى الكبرى والصغرى على قدم المساواة...

قد يستطيع فريق مدني ما من مجموعة من المثقفين أن يجترح المعجزة ويجذب إليه الناس لتأسيس دولة قوية مدنية عادلة...

نحن بحاجة فعلا إلى ويستفاليا لبنانية... وإلا فمن قعر إلى قعر آخر...


المصدر: موقع إضاءات الإخباري