التطبيع كمصطلح لغوي معناه عودة الأمور الى طبيعتها ونصابها ، والسلام معناه احلال السلام بين طرفين متحاربين ، والاستسلام معناه خضوع طرف لآخر والتسليم بقوته وانتصاره واقرارا من المهزوم بضعفه ، ووقف أطلاق النار معناه قبول طرفي حرب بوقف العمليات القتالية بصورة دائمة أو مؤقتة بغض النظر عن تفوق أحدهما أو تكافؤ القوة بينهما . للمصطلحات أعلاه معان لغوية ومدلولات قانونية وسياسية بعضها قديم وبعضها حديث وبعضها الآخر مُستحدث .
وبما الحديث هنا عن التطبيع كمصطلح شاع استخدامه مؤخرًا بقوة في الخطابين السياسي والإعلامي العربي والدولي لتسويق ما يٌسمى بالسلام مع كيان العدو فسينحصر الحديث عنه كمصطلح ووظيفة .
أولًا وقبل الخوض في أية تفاصيل لا يمكن لعاقل أن يدعو لخاتمة الصراع العربي الصهيوني بالتطبيع وهو بكامل قواه العقلية والنفسية ، على اعتبار ان قضية فلسطين ليست قضية عاطفية وفي المقابل ليست قضية مرهونة بوهن أو قوة أو عمر النظام الرسمي العربي ، ولا حتى بظروف ورغبات وأهواء المطبعين من الفلسطينيين أنفسهم ومن أي موقع أو فئة كانوا .
فالصراع بين حق وباطل وبين مغتصب وصاحب حق ، وبين عصابات طارئة على التاريخ والسياسة والقانون والأخلاق مُكنت من أرض لا يملكونها وكان منهم مواطنين وعمال بها حين كانت تعرف بحكومة فلسطين وباعتراف منهم . من هنا فان الكيان الصهيوني ليس احتلالا استعماريًا وكما عرف العالم في حقب من التاريخ حيث تحتل دولة أو أمبراطورية أخرى بحكم الاطماع وفائض القوة ، ويمكن للضحية المقاومة والمطالبة بالاستقلال ووفق شروط قد تكون مجحفة أحيانًا بحكم الظروف الموضوعية وتفاوت منسوب القوة ، فقد يشترط المحتل نظير خروجه قواعد عسكرية أو نصيب من الثروة أو نفوذ سياسي أو اقتطاع اراض وربما شيء من كل هذا ، وقد تكون هذه الاتفاقيات قطعية ونهائية أو تراجع وتجدد بين زمن وآخر ، أو تكون محددة بزمن معلوم . والأمثلة هنا لا حصر لها للمستعمرات البريطانية والفرنسية والبرتغالية والهولندية والاسبانية في القارات الثلاث ، آسيا وأفريقيا وأمريكا اللآتينية .
التطبيع توصيف لحالة غير مسبوقة في القانون الدولي ولا قواعد السياسة وهو اقرار الضحية للجلاد بحقه في السرقة الموصوفة واسباغ الشرعية على سرقته والاقرار له بأحقيته في ذلك وبراءته من جرائمه !! والكيان الصهيوني كيان لايمكن توصيفه كمحتل ولا مستعمر فهو لم يكن دولة ولا امبراطورية بل ولم يكن حتى جغرافية بعينها حتى يمكن التفاوض معه وفق قواعد القانون والسياسة وابرام اتفاقيات ومعاهدات من أي نوع معه فهذا السلوك لا يُعد مشينًا ومستهجنًا فحسب بل اساءة للقيم والاخلاق والقانون والسياسة معًا وتطاول فج على قيمها .
أما وظيفة التطبيع والتي ستوصلنا بالنتيجة الى ماهيته فهي وضع الأقطار العربية برمتها وبدون استثناء تحت هيمنة ورأية وقيادة وسيطرة الكيان الصهيوني وتنازل القوى الغربية وعلى رأسها أمريكا عن هيمنتها ووجودها لصالح هذا الكيان بعد تمكينه بالتطبيع ومده بكل أسباب القوة والهيمنة والتفوق . وحين يتسائل "عبقري" عن مصدر هذا التحليل نقول له إن كافة الحروب والمعارك والدمار والخراب والمؤامرات على الأمة العربية لم تكن لولم يكن في قلبها خنجر مسموم يسمى بـ إسرائيل ، فوجود هذا الكيان المسخ في قلب الأمة وتمكينه بدء من وعد بلفور وسايكس بيكو والكتاب الابيض وصولًا الى الربيع العبري ليس احتلالًا وهيمنة فحسب بل "فيتو" غربي على عدم وحدة الأمة أو تضامنها أو نهوضها بشكل كامل أو جزئي أو حتى فردي ، ولا يحتاج النهار الى دليل حين نستعرض المؤامرات على الاقطار العربية الحيوية وتحطيمها كنماذج وقدوات قد تحرف بوصلة العرب عن التبعية والانبهار بالسيد الأبيض في لحظة تاريخية فارقة .
وحين نبين الفرق بين التطبيع والسلام ، فعلينا استعراض اتفاقيتي كامب ديفيد ووادي عربة لنعلم هل هما شيء واحد؟ ، والجواب : السلام يحفظ للدولة كيانها وقرارها السيادي كما ينص القانون الدولي ، أما التطبيع مع الكيان فينتزع السيادة ويستبيح الكيان السياسي ويتدخل في أدق التفاصيل بذريعة تطبيق الاتفاقيات وملاحقها وتفسير بنودها ، الى درجة ان التطبيع لا يسمح للدولة المٌطبعة مع كيان العدو حتى بالتعبير عن موقف سياسي بقطع العلاقات أو تقليل التمثيل الدبلوماسي أو استدعاء السفير للتشاور وهي قواعد عامة متعارف عليها في الأعراف الدبلوماسية والعلاقات بين الدول . ناهيك عن تدخل العدو الصهيوني في المناهج والثقافة وتسليح الجيوش المُطبعة معه ومتابعته لأي اجراء أمني يتعلق بالأمن القومي للدول.
وأنا هنا كمواطن عربي خليجي أتسائل ، هل تستطيع أقطار الخليج المُطبعة مع الكيان الصهيوني "غدًا" منع تملك الصهاينة للعقارات وتمتعهم بالإقامات الدائمة بها والاستثمار بأسواقها بموجب القوانين الخليجية السارية !؟ وما موقف أقطار الخليج من تدفق مئات الآلاف وربما الملايين من الصهاينة واستيطانهم الدائم فيها بصفات ملاك عقارات ومستثمرين !؟ وماذا يمكن أن تفعله أقطار الخليج حين يطالب هؤلاء الصهاينة بالجنسية وحقوق المواطنة بعد حين من الدهر!!؟ مجرد أسئلة بريئة تناسب عقليات تسطيح التطبيع وتسويقه .
حين قتل قابيل أخاه هابيل بعث الله له أضعف مخلوق وهو الغراب ليعلمه كيف يواري سوءة أخيه ، واليوم يرسل الله لنا لبنان أصغر قٌطر عربي ليعلمنا معنى الكرامة وكيفية استرداد الحقوق المغتصبة ، فهل من متعظ !!؟
قبل اللقاء : القبول بالتطبيع يطابق تمامًا مقولة الشهيد العربي الفلسطيني غسان كنفاني : " يسرق منك خبزتك ثم يعطيك نصفها ويقول لك عليك أن تشكرني" !!
وبالشكر تدوم النعم
مسقط : 2020-8-22م
علي بن مسعود المعشني
[email protected]