لبنان لم يكن يوما دولة، بل مجموعة طوائف متواجدة في بقعة جغرافية واحدة، وهي مجبرة على إيجاد صيغة تعايش مشترك بحكم هذا التواجد...
هذا خلاصة ما يخرج به المرء بعد سماع الاستاذ نصري الصايغ في أكثر من مقابلة، يردد فيها ما يكتبه دائما في مقالاته بشأن بناء الدولة في لبنان...
الاستاذ نصري الصايغ هو أحد فرسان مدنية الدولة وعلمانيتها قبل أن يصطدم بجدار صلب من الفولاذ الطائفي الذي نزع عن الأديان كل التسامح الإنساني، والرحمة الإلهية، وزرع بدلا عن ذلك تعصباََ وانعزالية بغيضة غلفها بطبقة رقيقة من التكاذب المتبادل بين نفس هذه الطوائف الكارهة لبعضها البعض...
اليوم، يرفع الاستاذ نصري الصايغ الرايات البيض، ويعلن استسلامه أمام قوة الكراهية والبغضاء التي لا يملك نظام الطوائف غيرهما، ويعلن أن كل ما يجري هو مجرد إدخال تغييرات أو تحسينات على هذا النظام الذي من دونه لا يمكن لأي كان أن يكون جزءا من هذا الوجود...
باختصار بسيط جداً:
انت طائفي، إذاََ انت موجود...
أما في الحالات الأخرى، وإذا أصر أي كان أن يكون غير ذلك...
فهو لن يكون أكثر من شيء ما جامد في هذا الوجود، كما الاحجار والصخور والبحص والرمل وفي أحسن الأحوال شجرة ما... لا شيء أكثر...
طائفية المرء هي جواز وجوده...
بدون هذا الجواز، يبقى المرء مجرد نكرة...
في مقلب آخر وفي مقابلة لا تخلو من التصورات المثيرة للجدل، يخرج الكاتب الاستاذ سركيس نعوم مع السيدة سمر ابو خليل على قناة الجديد لينعي إمكانية بناء دولة مدنية في لبنان...
في الشكل العام يبدو أن الرجلان يلتقيان في القبول بالهزيمة أمام قوة نظام الطوائف والملل، لكن الاستاذ نعوم يربط هذا بما يجري في الإقليم، ويعلن بداية العصر الشيعي في لبنان، انطلاقاً من قوة إيران الندية في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية...
القاسم المشترك بين الرجلين هو القول إن لبنان لم يكن أبدا دولة بالمعنى العلمي للكلام...
مع المماليك والسلطنة العثمانية ساد التنمر السُني على الباقين، مع مراعاة المسيحيين الذين كانوا يلعبون دور مسمار جحا من قبل القوى الأوروبية...
لم يتأخر الوقت حتى سقطت خلافة بني عثمان التي قامت على تلال من الجماجم، ودخل لبنان في عصر سايكس بيكو، حيث صار التنمر مسيحياً مارونيا بامتياز مع مراعاة السُنّة خدمة لدور الوسيط بين الغرب والبلاد العربية... إلى أن وقعت الحرب الأهلية...
رغم الغلاف العلماني للحركة الوطنية، لم يستطع كمال جنبلاط إلا أن يكون درزياََ، وفشل جورج حاوي ومحسن ابراهيم في الخروج على هذا النظام الطائفي الراسخ الذي أعاد إلى السُنة بعض الاعتبار مع وجود منظمة التحرير الفلسطينية لتتكرس هذه الغلبة السنية مع دستور الطائف...
قام الطائف على ترك الاحتكارات بيد المسيحيين، مع سيطرة السنة على السلطة الاقتصادية والمالية وجعل كل ذلك تحت إدارة نظام الوصاية السورية...
يقول الاستاذ نعوم إن صعود إيران الأخير، وشبه انتصار محورها في الإقليم بات يفرض تغييرا في التوازن الطائفي في لبنان...
الاضطراب اللبناني يعود إلى الاضطراب الإقليمي...
قد لا يقبل البعض وصف لبنان على أساس أنه ساحة...
ربما لبنان الرسمي أكبر من أن يكون ساحة، لكنه بالتأكيد أصغر من أن يكون دولة... ودائما وفقا لتصنيف الأستاذين الصايغ ونعوم...
العالم متداخل واضطراب النظام العالمي سوف يؤدي بالتأكيد إلى اضطراب كل العالم...
مرحلة القطب الواحد لم تعش أكثر من لحظات قبل أن تستفيق روسيا وترفض إحاطتها بزنار اطلسي لن يلبث أن يخنقها...
في النهاية، التطور التكنولوجي العسكري الروسي( روسيا هي الدولة رقم واحد في قوة الصواريخ فرط صوتية)؛
كما ان الغنى بالموارد لا يمكن إلا أن يعبر عن نفسه بعودة الروس إلى ميدان الدول العظمى...
روسيا لم يعد يحكمها المخمور يلتسين...
في روسيا دولة عميقة دفعت بوتين إلى الواجهة لأنها رأت فيه ذلك الضابط الذي خرج في برلين الشرقية حاملا مسدسه وقال للمتظاهرين ضد السوفيات:
أنا افهمكم، لكني ورجالي سوف نقتل كل من يتجرأ على الدخول إلى هذا المبنى الموجود تحت حمايتنا...
كذلك كان خروج الصين...
خلال سبعة عقود، حول الشيوعيون الصينيون بلدهم من دولة فقيرة جائعة تشبه بلدان العالم الثالث إلى ثاني قوة اقتصادية في العالم مع تطور تقني وما فوق تقني قد يسمح حتى إلى أن تطالب تايوان نفسها بالعودة إلى الحضن الصيني دون حرب... وهذا ما يطالب به حزب الكومينتانغ، مؤسس جمهورية الصين الوطنية في تمايز عن جمهورية الصين الشعبية...
تقول وجهة نظر الاستاذ سركيس نعوم إننا لن ننعم بالهدوء والعودة إلى الاستقرار قبل هدوء النظام الإقليمي الذي يعتمد بدوره على النظام الدولي...
في هذه النظرة الكثير من المنطق... لكن الجدلية العلمية تفترض العكس أيضاً...
لا يمكن للنظام العالمي أن يستقر بشكل تام، إذا كان استقرار الأقاليم مفقوداً...
قد نعيش حينها حربا باردة أخرى، لكن دون استقرار عالمي...
ينطبق الأمر نفسه على الاستقرار الإقليمي الذي يحتاج هو أيضاً إلى استقرار كل المجتمعات المكونة لهذا الإقليم أو ذاك...
هنا يأتي دور القوى المحلية التي يقلل الاستاذ سركيس من أهمية دورها ويجعله ملحقا بمركز ما...
نظرة الاستاذ سركيس تقول إن حزب الله في لبنان، أو أنصار الله في اليمن ليسا أكثر من تابعين للمركز في طهران...
لكن الأحداث التي جرت والتي تجري تدلل على أن هاتين القوتين لم تعد قوى محلية، كما أمل أو المستقبل أو غيرها من الأحزاب...
إذا كان ضرب العمق السعودي يخدم مصالح إيران كما مصالح أنصار الله في بعض الأحيان، فإنه كان يتخطى التهدئة التي كانت تحتاجها طهران في أحيان أخرى...
تما كما حصل مع الإمارات...
في الإمارات، كان تصرف قيادة أنصار الله نابع مئة في المئة من مصلحة يمنية خالصة رفضت الانصياع إلى الروس والصينيين وحتى الإيرانيين...
كذلك الأمر مع حزب الله...
قد تنفرج الأمور في لبنان في حال اتفاق الأميركيين مع الإيرانيين، لكن سبب ذلك لن يكون بسبب تراجع حزب الله بقدر ما سوف يكون تراجع الأميركيين عن سياسة الصدام ودعم اتباعهم في الساحة...
ثم من قال إن اتفاق اميركا وإيران سوف يقود الى الهدوء...؟
اميركا سوف تنتقل من الخطة ألف إلى الخطة باء وسوف يكون هدفها دوما ضرب حزب الله، طالما أن هذا الحزب يشكل الرافعة العربية الجدية الوحيدة التي بإمكانها هزيمة المشروع الصهيوني...
عندما يلمح الاستاذ سركيس إلى ان حزب الله قوة تابعة لإيران، هو قطعاً غير محق؛ حزب الله أصبح بنفسه قوة إقليمية لها وزنها ولها معادلاتها، وهو بالتأكيد اكبر ليس فقط من لبنان، بل اكبر حتى من الكثير من دول الموز العربية، بما في ذلك مشيخة الكويت المنضمة حديثا الى قطار التبعية والتطبيع وخيانة فلسطين...
لكن عندما يضع الاستاذ سركيس حزب الله داخل القوقعة المذهبية، فهو، بكل أسف، محق جداً...
رغم وطنية حزب الله والنضال القومي، والنضال الأممي الذي يقوده على الساحة اللبنانية وحيث يجب أن يكون، لم يستطع الحزب التحرر من هذه القوقعة...
قد يتفهم المرء تبعية حزب الله لنهج أهل البيت الجهادي والديني، لكن من الصعوبة بمكان القبول بعدم قدرة الحزب على الانفتاح على القوى التي تشبهه في النضال وليس في التقوقع...
هنا يكمن الخطر على حزب الله...
هنا سوف يكون مقتله إن هو لم يتدارك الأمور ويكسر تلك العلاقات المذهبية... وهنا ليس المقصود فقط علاقته بحركة أمل التي تتخذ من المذهبية حماية للفاسدين في صفوفها...
بل حتى في العلاقة مع الأطراف المسيحية أو السنية أو الدرزية حيث ينطلق الحزب دوما من
منطلق أنه يمثل الشيعة في المعادلة... بينما المطلوب أن يكون قيادة وطنية عابرة للمذاهب...
فقط في التحرر من الانتماء المذهبي سوف، يتحرر حزب الله من القيود التي يلبسه إياها الاستاذ سركيس نعوم وفقط حينها يستطيع بناء دولة قانون وعدالة وقوة، وغير ذلك ليس سوى تغيير في توازن الطوائف بانتظار أزمة أخرى أو حرب أهلية لا بد أن تأتي، ودوما باسم مظلومية الطوائف...