غالب قنديل
الرجل الهادئ المهذّب ابن بيروت الذي يحلم بفلسطين نذر حياته لتحريرها منذ زمن فتوّته، وكان في غمار تجارب وتشكيلات فدائية مقاتلة، يخوض الكفاح ضد العدو، ويطوّر خبراته ومعارفه ويصقلها. وقد ألهبت حماسته الثورة الخمينية، كما فعلت بجموع الشباب العربي، الذي أحيا فيه الخميني الأمل بتحرير فلسطين.
تحرّك أنيس لملاقاة الثورة الإيرانية ومعاضدتها، واختار أن تكون مساهمته في دعمها المشاركة في محاولة لتصفية شهبور بختيار آخر رؤساء حكومة الشاه العميل، وفي الحصيلة اعتقل الشاب البيروتي لسنوات في السجون الفرنسية، أمضاها في القراءة يشغله الشوق لفلسطين ولوطنه لبنان ومدينته بيروت.
سُجِن عشر سنوات في فرنسا بعدما سدّد ضربته الشجاعة، التي كانت فعل ترحيب واحتفال بالثورة الخمينية، التي أنعشت أرواح وعقول أحرار العرب بعد الرّدة الساداتية اللئيمة. وأنيس الفتى العروبي اللبناني كان المبادر في تصفية أحد أعمدة النظام العميل.
بعد سنوات السجن كان لقاؤه بالعماد المقاوم وبرفاقه في حزب الله، فبات أنيسهم ورفيق الدرب، الذي لا يبارح الجبهات والخطوط الأولى، مبادرا في الجبهة السياسية الفكرية، كما كان دوما في الاشتباك الأمنيّ والعسكري، الذي قطعته سنوات سجنه، التي لم تقطع مسار شغفه والتزامه الوطنيّ والعربي. فأقبل على القراءة والتحصيل والمتابعة، ليخرج من سنواته العشر في الاعتقال منارة فكرية ثقافية سياسية بما تراكم واختمر لديه، فزاده معرفة واطّلاعا والتماعا وتجليا.
الكاتب والمفكّر المناضل أنيس النقاش اللبناني العروبي المقاوم تحول إلى ضيف في المنابر الإعلامية، فأبهر المشاهدين والمتابعين بحضوره ولغته وأفكاره وبتواضعه الشديد، وبما يختزن معنويا وتاريخيا من رصيد. كان واضحا في انتمائه الوطني والعروبي، مترفّعا على العصبيات والهويات المفارقة، ولم يستخدم أبدا لغة العصبيات والطوائف والمذاهب، ولم يُعرف كثير من تفاصيل شخصيته إلا بعد رحيله.
التبس الاسم على كثيرين، فعائلته تضمّ مسلمين ومسيحيين، ولغته ومفرداته المترفّعة والمهذّبة لم تكن تحتوي المصطلحات الطائفية والمذهبية. فالجوهري فيها فلسطين والوطنية والعروبة والمقاومة والتحرّر. وهو الودود الأنيس العابر للطيف الوطني، ظنّه الكثيرون من عائلة مسيحية، وصُدموا بحقيقة جذوره الفعلية بعد رحيله. فهو لم يتكلّم بلغة الطوائف، وكان يعرّف نفسه بفلسطين وبعهد المقاومة.
المناضل الراحل أنيس النقاش المثقف الثوري والقائد الريادي في المقاومة اللبنانية شريك العماد ورفيق دربه علم من أعلام التحرر والمقاومة في الوطن العربي، تخلّده سيرة نضالية مشرّفة. وقد خسرناه في عزّ عطائه وتفتّحه، وكنا نتمنى له البقاء معنا لفترة، يشهد فيها مبادرات المقاومة وسيّدها في قهر المستحيلات وابتكار الحلول في زمن الانهيار الاقتصادي والمالي واستثمار فائض القوة والإنجازات الكبرى في اسعاف الناس وزحزحة ظروف الضيق الخانق. كنا نرتقب مساهمات الأنيس في الابتكار والإبداع لتخطي الانهيار الكارثي، ومساهمة فاعلة في بناء وعي وطني وشعبي لسبل الخلاص وتخطّي الكارثة.
عندما نحيي ذكرى القادة والرواد، نستلهم أفكارهم ومبادراتهم. وينبغي بنا استذكار موقف هذا المفكّر والمثقّف العربي الكبير من سورية الأسد وقائدها البشار. وهو كان في طليعة من تخندقوا في الدفاع عنها والتضامن معها ضد العدوان الاستعماري الصهيوني، داعيا كعادته للانخراط في جبهات الدفاع عن سورية وشعبها وجيشها ودولتها الوطنية، التي ربطته برئيسها البشار وقادتها صداقات وثيقة ورفقة سلاح، وحظي في دمشق وكلّ سورية بكلّ الاحترام والتقدير الذي يستحقه.