بعزيمة وإصرار على تحقيق الأهداف التي اعلن عنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تستمر العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا على الرغم من التهويل والصراخ الذي تطلقه مجموعة دول حلف الناتو التي اختارت المواجهة بعيدا عن التدخل المباشر لجيوشها الجرارة لتقود هذه الحرب المصيرية للعالم بالوقوف في خندق متقدم يفتقر لعامل القوة في قرار استخدام هذه الجيوش التي أثبتت عدم فعاليتها في حروب سابقة بدءاً من فيتنام وانتهاءً بالعراق وافغانستان بينما العالم يشهد ويسجل هذه الهزائم ويبني عليها استراتيجيات ومعادلات المراحل المقبلة لسياساته واصطفافاته المستقبلية .
بينما تتمسك الولايات المتحدة الأمريكية بعقلية المنتصر الذي اعلن عن نفسه عام 1991 في عهد الرئيس جورج بوش الأب بعد انهيار نظام القطبين لتحل محله الأحادية القطبية التي تتربع على عرشها واشنطن ليأتي السؤال الأبرز من قبل كبار القادة في مكتب الأمن القومي الأمريكي المتمثل بـ كيف نبقى الرقم واحد في العالم؟ وكيف نحافظ على هذا التفرد في قيادة العالم؟ ، لتختار الادارة الأمريكية من ضمن الاستراتيجيات المقدمة من التيارين المتمثلين بالعزلة الجديدة والتدخل لتعلن عن انتهاج استراتيجية الهيمنة (القيادة ) المتمثلة بأن يكون القرن الحادي والعشرين قرناً أمريكياً بامتياز معتمدين في تحقيق ذلك على استمرارية العمل بالوثيقة (٦٨) التي اقرها مكتب الأمن القومي الأمريكي في عهد الرئيس هاري ترومان وتنص هذه الوثيقة على منع بروز قوة أو مجموعة من القوى تنافس الولايات المتحدة أو تؤثر على مصالحها حول العالم ومازالت هذه السياسة مهيمنة على صانع القرار الأمريكي حتى تاريخ كتابتي لهذه السطور .
وهذا يعني غياب النظرية الواقعية في سياسات واشنطن ونقول هذا لان هناك الكثير من المتغيرات التي حصلت في العالم لناحية بروز قوى متعددة ومتنوعة في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية التي خلقت تكتلات على الساحة الدولية التي فشلت واشنطن في احتوائها منذ عام ٢٠٠٠ حين شنت حروبها في وطننا العربي بحجة محاربة الارهاب بينما الهدف الحقيقي من هذه الحروب ان واشنطن كانت ترى في منطقة الشرق الاوسط نقطة الارتكاز التي تنطلق منها لاحتواء كل من الصين وروسيا في هذه المنطقة فكانت الحروب الاستباقية والانتقائية حسب عقيدة واشنطن الا انها فشلت في تحقيق هذا الهدف .
فرأينا صعود روسيا الاتحادية التي استطاعت ومنذ وصول فلاديمير بوتين الى الحكم القيام بالعديد من الاصلاحات في عدة مجالات لتحصين البيت الداخلي الروسي اهمها السياسية والتطور العسكري الكبير والنمو الاقتصادي كما استطاع هذا القائد ادخال الغاز كأحد اهم الادوات الاقتصادية التي استطاع من خلالها فرض روسية قوية على الساحة الدولية وتتحكم في هذا المورد الهام من موارد الطاقة الدولية ليتحول هذا الغاز الروسي لسلاح استراتيجي للدولة الروسية .
وبسياسة العقل البارد التي انتهجها بوتين والصبر الاستراتيجي على كل استفزازات الغرب الأمريكي المتمثلة بضم دول كانت منضوية تحت لواء الاتحاد السوفييتي الى حلف الناتو وما تمثله هذه الخطوات الغربية من مساس بالأمن القومي الروسي استمر بوتين ببناء روسيا الاتحادية وعيناه مفتوحتان تترقب الفرصة التي يوقف فيها هذا الاستعداء والاستعلاء الامريكي الغربي لبلاده ليتحول عام ٢٠٠٨ لعام مفصلي بالنسبة لبلاده حيث استطاع افشال الثورات الملونة في جورجيا وما تلاها من ضم جزيرة القرم ومن ثم التدخل الروسي في الحرب الامريكية الغربية على سورية الذي استطاع من خلالها فرض نفسه على الساحة الاقليمية من خلال التشبيك مع ايران ومحور المقاومة الذي اثبت قوته وحضوره الذي لم يستطيع احد سلبه هذا الحضور، بالإضافة الى الصعود الكبير للصين التي استطاعت وبكل هدوء وروية بناء اقتصاد ضخم يواجه الاقتصاد الامريكي بل سيتفوق عليه في السنوات القليلة القادمة حسب رأي الخبراء .
وهنا يكمن سر القوة التي تواجه فيها روسيا هذه التحديات الامريكية الغربية ويجعلها تخطو خطوة الواثق عندما قررت الذهاب لعملية عسكرية في اوكرانيا الى النهاية فروسيا لديها حلفاء استراتيجيين مثل الصين التي تنظر لمعركة اوكرانيا لناحية الرد الاطلسي كما لو كانت تخوض معركة استعادة جزيرة تايوان ويهمها كثيراً ان تنتصر روسيا في هذه المواجهة وتراقب بحذر مخرجات الميدان والسياسة بشكل يومي وتحضر بطريقة لم نعهدها في السلوك الصيني في المحافل الدولية وفي الرد على التهديدات الأمريكية .
نظرة التفوق والاستعلاء والعنجهية في السياسات الأمريكية هي من أوصل بالعالم اجمع الى ما تشهده عدة جبهات بدءا من الشرق الاوسط وليس انتهاءا بالحرب الدائرة اليوم بين روسيا وأوكرانيا التي تحافظ واشنطن على نهجها العدائي الغير موضوعي التي استثارت فيه غضب روسيا بالاقتراب من حدودها بقنابل موقوتة بدأت بعسكرة اوكرانيا وجعلها دولة نووية وتنتهي بجعل حدودها حدود النار والأوبئة والدمار الموجه على روسيا دولة وشعبا لتفتح واشنطن جبهة جديدة من الحروب التي وكما يبدو سيترتب على خواتيمها الكثير من المتغيرات الدولية والاقليمية وهذا المشهد الذي ترسمه القوات الروسية في أوكرانيا بلغة التحدي الكبير الذي لم تعهده واشنطن سابقا سيفتح ورقة جديدة في كتاب النظام العالمي الجديد وهذا ما اكده مدير المخابرات الخارجية الروسية بأن مصير روسيا ومكانتها المستقبلية في العالم يقرر في أوكرانيا .
ليتبعه تصريح لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بأن التطورات في أوكرانيا تحظى بأهمية قصوى وهي معركة من اجل مستقبل النظام العالمي
تحت هذه العناوين نستطيع ان نستقرأ مستقبل المشهد في اوكرانيا بالرغم من كل التصعيد الامريكي الغربي واستماتة هذه الأطراف لتحويل هذه المعركة الى فشل استراتيجي لروسيا عبر فتحهم لمستودعات الأسلحة لتزويد القوات القومية والنازية وجحافل الارهاب الذي تم استقدامهم من سورية والبرازيل وغيرهما من الدول والسخاء المالي الضخم تحت عناوين مساعدات انسانية ورفع ميزانية التسلح في هذه الدول ، بالقول وبعيدا عن الدخول بالتفاصيل التي ستحدد هذا النصر وخارطة طريق عمل القوات الروسية للأيام وقد تكون للشهور القادمة إلا ان هذه المعركة مصيرية بالنسبة لروسيا وستنتهي هذه المعركة بتحييد اوكرانيا وجعلها دولة منزوعة السلاح بما سيتيح اعادة ترتيب البيت الدولي بمشاركة فعالة من لاعبين جدد حرمتهم واشنطن من هذه المشاركة طيلة عقود مضت وما يجري من صراع امريكي غربي مع روسيا والصين في الساحة الاوكرانية ليس الا تمهيدا لظهور هذا العالم .
إلا أن الغطرسة الامريكية ستجعلها تتأخر عبر تعنتها وعدم تسليمها بهذه المتغيرات ومعاداتها للقائمين عليها للنهاية حتى ترى نفسها امام هذه الحقيقة وترضخ للتعايش معها ،ليصبح التعايش ممكنا مع روسيا الاتحادية وليس كما قال زعماء واشنطن بعكس ذلك فعجلة التغيير الدولي انطلقت وبدأت الدول تسير نحو خارطة طريق جديدة وهنا نرى الاصطفافات الدولية والاقليمية التي كانت تابعة لواشنطن تحاول التخفيف من تبعات هذا التغيير عبر استيعابها والسير في ركبها بما يخفف الفاتورة المترتبة على هذا الواقع الجديد .
والجدير ذكره هو حدة اللهجة في الخطاب الدولي الموجه ضد واشنطن والغرب بتنا نرى خطابا دبلوماسيا جديدا لم نكن نعهده من قبل روسيا والصين وعديد من دول العالم ، وهذا الخطاب يضع امريكا امام استحالة احتفاظها بالبقاء الرقم واحد في هذا العالم وبذا لم يعد باستطاعتها الاستمرار بمقولة ان امريكا هي هبة الله على الأرض وكأن الله قرر استبدالها بهبات أخرى .
الدكتورة حسناء نصر الحسين
باحثة في العلاقات الدولية - دمشق