عادل سماره
لم يكن في السياسة الإقتصادية للطبقة الحاكمة في روسيا توجها نحو فك الارتباط كما أعتقد ولكن لا أجزم. فالحزب الحاكم ليس شيوعيا، هو حزب وطني نعم، وفيه تيار لبرالي غربي قوي. لذا حينما حاول بوتين تأميم البنك المركزي رفض ذلك حزبه ورفض ذلك الحزب الشيوعي (أنظر كتابنا صين إشتراكية أم كوكب اشتراكي 2022) . لكن السياسات الاقتصادية بل والاستراتيجيا الاقتصادية هي مسألة طبقية إجتماعية دائما اي متغيرة ومتحولة طبقا لظروف معينة، ولذا، فالتحديات تقود إلى تعميق توجه والتخلص من آخر. فكلما إشتدت الحرب الإقتصادية الناتوية ضد روسيا كلما تبلورت قوى اجتماعية تدفع باتجاه فك الارتباط وربما ابعد حيث هو الخيار الأوحد وهذا لا يحدث في فترة قصيرة كالتي نحن فيها. هذا التبني ليس مطروحاً في اللحظة لأنه:
أولاً :هو سيرورة وليس امر يتم تنفيذه فورا
وثانياً: لأن الاقتصاد الروسي غارق في شبكات معقدة مع السوق الرأسمالية العالمية وليس من الصحيح ولا حتى من الممكن التخلص منها بسرعة وسهولة.
وثالثاً: لأن في روسيا قوى طبقية من مصلحتها بقاء الانخراط سواء بالتبادل أو الاستهلاك الترفي.
يُقال أن حاكمة المصرف المركزي الروسي السيدة أندولينا وقفت ضد البدء بالحرب الدفاعية ريثما تتمكن من تجميع ما أمكن او استعادة ما أمكن من الاحتياطيات النقدية الروسية في الغرب خاصة ولكن بوتين رفض التأجيل مما دفعها للاستقالة لكنه رفض استقالتها. وهذا يعني أن بوتين كان مضطرا للحرب وبالتالي عدم الإصغاء للترتيبات التكنوقراطية التي قد تأخذ وقتا طويلا يهدر فرصة السياسي في التقاط اللحظة وضرب ضربته.
ولذا، تدخل روسيا الحرب مع النظام الراسمالي العالمي نفسه بأدواته وبما لديها من إمكانيات لأنها في اللحظة ليست لديها فرصة أو ترف لا الخروج الآمن والبطيىء من شبكة التبادلات الدولية ولا تشديد الصراع الطبقي، إذا كان هذا توجه السلطة، والوطن قيد التهديد.
في هذا السياق مهم أن نلاحظ أن الإدارة الأمريكية كانت شديدة السرعة في تصعيد الحرب الاقتصادية ضد روسيا حيث نقلت حرب ترامب الاقتصادية ضد روسيا إلى حرب اقتصادية ناتوية ضد روسيا وطوَّقت أوروبا وأرغمتها على التخلي عن ما يمكن التخلي عنه في المبادلات مع روسيا حتى لو خرقت كثيراً من العقود وأرغمتها على دراسة إمكانية الطلاق التجاري مع روسيا في اقصر زمن ممكن.
وهذا يردنا إلى ما كتبناه عن امريكا خاصة بأنها عالجت الأزمة الإقتصادية فيها بالحرب طالما لا مجال لعلاج إصلاحي داخلي ولا لثورة تقلب النظام، وهذا ينطبق ايضا على اوروبا واليابان.
التنافس الريعي/حرب الريع
السمة الأبرز أو على الأقل المختلفة لهذه الحرب عن الحروب السابقة هي في طابعها الريعي وهذا أمر يرتد إلى تطورات النظام الاقتصادي الراسمالي العالمي، وخاصة أمريكا، منذ قرابة اربعة عقود حيث بدأ الاقتصاد في المركز في التحول عن الإنتاج الصناعي خاصة نحو الاقتصاد الممولن سواء في المضاربات أو اعتماد تحصيل الريع من بيع السلاح والطاقة وشراء الشركات الكبرى التي هي بيد عائلات لكثير من العقارات التي عجز مالكيها عن دفع أقساطها وكذلك تحصيل الريع من التأمينات...الخ.
ولكن السؤال لماذا هذا التحول؟
هنا قد يفيدنا ماركس في قانون "الانسحاب والغزو" بمعنى أن راس المال لم يقم على أرضية حتمية الإنتاج لأجل الإنتاج أو عيون الناس مهما كانت الظروف بل على حتمية التراكم وصولا لأعلى درجة ممكنة من الربح. ولذا، يذهب راس المال إلى المناطق أو المجالات التي تحقق ربحا اعلى وضمن تحصيل الريح الأعلى هناك مناطق بها قوة عمل رخيصة الأجر، كثيفة العدد قليلة الضمانات والحقوق.
لذا، حصل ما يسمى تصدير راس المال العامل الإنتاجي حيث غادرت شركات صناعية كثيرة المركز وخاصة الأمريكي إلى بلدان العالم الثالث ومنها الصين طبعاً. وأدت هذه الظاهرة إلى وجود دول عديدة تنتج منتجات صناعية مدنية دخلت السوق كمنافس للمركز الراسمالي. ولنقل فيض العرض المعولم.
هذه المنافسة لم تضرب الطبقة الراسمالية الصناعية في المركز في مقتل، بل بالعكس فهذه الراسمالية توجهت لتعظيم ارباحها عبر نشاط مزدوج لها:
الأول: تحصيل معدلات ربح وكميات تراكم هائلة من الانسحاب من اسواق بلدانها إلى المحيط، وهذا ما جعل المحيط او شبه المحيط ، إذا صحت تسمية الصين هكذا، منافساً لدول المركز من حيث اخذه حصة في السوق هي على حساب الطبقات الشعبية في المحيط وليست على حساب الرأسمالية وهي ضئيلة العدد.
والثاني: توجه نفس الراسمالية كنظام إلى مجالات الربح من الريوع، سواء بيع السلاح او استخراج النفط أو احتكار العقارات.
تغيير راس المال مواقعه وطبيعة دوره مثلا تحول شركة من الصناعة المدنية الثقيلة إلى الأدوية أو إلى العقارات أو الاندماج مع شركات صناعة السلاح، أو شراء مزارع في المحيط...الخ، وبالتالي مراكمة سيولة مالية هائلة وصلت في حالات عديدة إلى تحول نسبة منها إلى أموال كسولة لا يعني أن هذه الأموال سالت من الأعلى إلى الطبقات الشعبية، اي إتسع الفارق الطبقي داخل دول المركز نفسها وخاصة الولايات المتحدة.
تم هذا في العقود السابقة حيث جرى تخفيض الضرائب على الشركات الكبرى وإلقاء العبء على الشعب، وتقليص حجم وتدخل الدولة في الاقتصاد أي تم تجاوز السياسة الكينزية على العموم باستثناء الكينزية السلاحية اي دور الدولة في تشجيع ودعم وتبني إنتاج السلاح مما يحقق للشركات أرباحا هائلة. والسلاح بالطبع مصدر ريع هائل بمعنى أن الدول المنافسة في هذا المجال او القطاع قليلة. ولننتبه هنا أن روسيا منافس قوي وهذا أحد اسباب محاولات تحطيمها.
بكلام آخر، فإن توجه أمريكا خاصة هو تقليص التصنيع وتوسيع نطاق الاعتماد على الريع. وأمريكا في هذا المجال قادرة على المنافسة لأنها بلد غني بالثروات ومنها النفط كما أنها مكتفية زراعيا وقد يكون إصرارها على الاحتفاظ بالناتو ليس من أجل حرب قد تفني العالم ولكن لتوليد ناتو إقتصادي تُرغم أوروبا على الإلتزام به.
هنا نصل نقطة الصراع بين امريكا وروسيا. فطالما اصبح الاقتصاد الأمريكي ممولنا بالريع سواء من حيث الطاقة والسلاح اكثر منه بالصناعة، وهي نفس السمات للاقتصاد الروسي سواء من حيث الموهوبية الثرواتية اي الحصول على ريع من باطن الأرض أو القدرة الإنتاجية للسلاح فقد اصبحت مصلحة مباشرة لأمريكا في تقويض نهوض الاقتصاد الروسي بعد يلتسين.
هنا تجدر الإشارة إلى أنه في ظروف معينة بوسع بلدان الانتقال إلى التصنيع إذا ما توفرت لديها الموهوبية الثرواتية أو استيراد المواد الخام والتقنية وراس المال. وهذا يعني ميزة نسبية واضحة لصالح البلدان التي لديها موهوبية ثرواتية وروسيا ربما أهمها. وإذا كان التصنيع أمر ممكن نقله من بلد أو عن بلد إلى آخر، فإن الموهوبية الثرواتية لا يمكن خلقها. فلا يمكن خلق أهرامات في المانيا، ولا نفط في فرنسا إذا لم يكن موجوداً.
وإذا صح تقدير مايكل هدسون، وهو صحيح أن من يحكم أمريكا ويقودها هو ثلاثي:
المجمع الصناعي العسكري (MIC) ومجمع النفط والغاز والتعدين (OGAM) والمجمع المصرفي والعقاري (FIRE) وهو يقود حلف الناتو؟.
فإن هذا يبين لنا لماذا يدفع هذا الثلاثي باتجاه حرب الريع ضد روسيا. وبالطيع فإن هذا الثلاثي يتحالف أو تتم خدمته ايضاً من المؤسسة الإعلامية ومؤسسة الدين السياسي والأكاديميا في الولايات المتحدة.
من الواضح أن أمريكا تحاول الحلول محل روسيا في تبادل المنتجات الريعية مع أوروبا سواء الطاقة أو المعادن/المواد الخام الضرورية لكثير من الصناعات. وحيث وصلت أمريكا هذه الدرجة فهي تغدو أكثر حرصا على عدم خروج أوروبا او جزء منها من الكماشة الاقتصادية/السياسة الأمريكية وعليه تمارس التصعيد في حرب الاقتصاد لأعلى درجة ممكنة.
لكن الرغبة الأمريكية في التصعيد شيء وقدرة أوروبا على القطيعة شيء آخر، وتعدد مواقف الأوروبيين شيء آخر ثالث والرد الروسي شيء آخر رابع.
هناك مواد خام وغذائية لا يمكن الاستغناء عنها على الأقل لعام أو اكثر سواء القمح والنفط أو الكوبالت والبلاديوم والنيون...الخ لحين توفر البدائل. فهذه ثلاث فئات:
الأولى: فئة النفط أو الطاقة التي بوسع امريكا تصديرها لأوروبا ولكن ليس سريعا من جهة وبكلفة عالية من جهة ثانية،
والثانية: وهناك مواد خام لا يمكن لأمريكا تعويضها مثل الكوبالت والبلاديوم والنيون...الخ.
والثالثة: القمح والمواد الغذائية التي تشكل قوة لروسيا على الصعيد العالمي ايضاً أكثر مما هي على صعيد علاقتها بأوروبا.
لكن المهم هنا أن هذه الإمكانات الروسية لا يتم تبخيس دورها وقيمتها بربطها أو قرائتها على ضوء حجم الاقتصاد الروسي الصغير نسبيا، وطبعا بعيدا عن قوة روسيا السلاحية، نظراً لأن أهميتها وحاجة العالم لها وخاصة في شروط الحرب هي أهمية حاسمة سواء من حيث الحاجة الإنسانية اليومية لها أو من حيث سهولة بل صعوبة سلاسل التوريد.
هنا نصل إلى حقيقة أن الطابع الغالب لهذه الحرب هي الحرب الأخرى كما اشرنا سابقا أي حرب الريع مقابل الريع. وقد يستغرب القارىء أننا لم نقل حرب الصناعات المتقدمة، ذلك لأن الحرب تذهب بالشعوب نحو الحفاظ اليومي على البقاء وهذا يعتمد على توفر الأمن الغذائي والأمن الشخصي من الحرب.
فالناتو لم يتدخل عسكريا بعد في هذه الحرب، والولايات المتحدة بدورها تحاول الحلول ريعيا(الطاقة عموما) محل روسيا في أوروبا، ولذا ترغم أوروبا على أعلى قطيعة وتخلي عن الاتفاقات التجارية مع روسيا حتى لو خرقت القانون الدولي وشروط الاتفاقيات.
لكن، ما الذي تقدمه امريكا هنا؟
أمريكا لا تقدم لأوروبا سلعا صناعية متطورة أو وسيطة، فهذا متوفر في أوروبا والشركات الكبرى للطرفين وغيرهما هي معولمة ضمن القطاع العام الراسمالي المعولم. بل إن امريكا ترغم أوروبا على دخول الصراع اقتصاديا وتعمل على تزويدها بالطاقة باسعار عائلة وتدفيعها ثمن السلاح الذي تزودها به بحجة مواجهة عدوان روسي.
اقتصاد روسيا مناسب للحرب حيث يوفر للشعب ولشعوب أخرى العيش الغذائي. وهذا مهم في الحرب أي ان هذه المنتجات مطلوبة عالميا في الحرب. إن ما تقدمه أمريكا هو الخام مقابل الخام أو الريع بدل الريع، أي حرب الريوع إن شئت.
لكن هذا ليس كل شيء، فكما اشرنا، لا تنحصر الحرب أو تفاعلاتها بين روسيا والغرب الراسمالي، فالعالم في قلق وحذر من ارتفاع أسعار المواد الغذائية "على رأسها القمح". (تمثل روسيا وأوكرانيا 25 في المائة من صادرات القمح العالمية.) وعليه، فحصار روسيا يعني توقف التوريد الغذائي للعديد من الأمم وهذا يحدث اختلالا في السوق الدولية وخطورته ربما المباشرة أو على مدى متوسط سقوط أنظمة هي جزء من النظام الرأسمالي العالمي وخاضعة له ومنهوبة من قِبله ومعروف أن المركز الراسمالي حريص على عدم خروج اي بلد من نطاق التبعية له والذي قد يتحول إلى نظام ضد راسمالي.
هذه الحرب الريعية ليست فقط ضد روسيا أو بينها وبين أمريكا بل تصيب بلدان المحيط/العالم الثالث بقوة كما تصيب ايضا جنوب أوروبا حيث هي دول مدينة وبالطبع سوف تتخلف عن سداد ديونها وخاصة على ضوء لهيب الأسعار من جهة وكونها، بل والعالم لم يخرج بعد من أزمة كوفيد19.