في التسعينيات من القرن الماضي، التقيت برفيق/ صديق كان قد انتقل من الفكر الثوري اليساري إلى الفكر "الثوري" الديني...
كان من الطبيعي وفق منطق التبعية الذي يسود علاقات الناس والأحزاب في لبنان، أن يدافع صاحبنا عن خفوت صوت حزب الله في كل ما لا يتعلق بالصراع المباشر القائم ضد "دولة" إسرائيل... وكأن الصراع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي داخل كيانات سايكس بيكو، أو حتى على امتداد العالم العربي وعالم الجنوب... هو أمر منعزل تماما عن الصراع ضد الصهيونية...
الغريب أن وجهة النظر هذه رددها السيد نصرالله أكثر من مرة في خطاباته، وتتبناها مسلسلات الحزب الرمضانية في ما يشبه الانفصام في الشخصية بين الكلام النظري والفعل الواقعي على الأرض...
عندما واجهت صاحبنا بمدى حيوية وديناميكية النائب نجاح واكيم في تلك الأيام التسعينية، في مقابل موت حزب الله السريري في أمور الداخل اللبناني، أجابني "الرفيق" السابق، بكل سذاجة؛ سذاجة، لا يقبلها لا عقل ولا منطق، أن حزب الله يفتقد إلى مراكز وأجهزة كتلك التي يملكها النائب واكيم!!!...
نفس الأمر تكرر ولا يزال يتكرر على مدى العقود الثلاثة التي خضع فيها هذا البلد إلى تسوية شبه دستورية تم الاتفاق على تسميتها "دولة الطائف"...
هل يعقل مثلاً، أن يستطيع بضعة صحافيين استقصائيين من امثال رياض قبيسي وفراس حاطوم مع بضعة مساعدين أن يعلو صوتهم فوق صوت حزب الله...
هل يريد حزب الله إعادة هذا الأمر إلي القروض التي حصلت عليها شاشة الجديد من رياض سلامة...!!؟؟
استيقظت فجر اليوم لأجد ملفا من ١٧٦ صفحة من تنسيق النائب حسن فضل الله مع الكثير من المديح لهذا الملف والجهد العظيم الذي قام به النائب فضل الله من أجل تكريس مبدأ المحاسبة في لبنان...
اطلعت على بضعة صفحات أولى في الملف قبل أن أخرج باستنتاج... إن حزب الله قام بهذا العمل فقط للرد على الانتقادات التي كانت توجه إليه، وفقط لتبرير لا فاعلية الحزب في كل تلك الحرب الخافتة الصوت ضد الفساد... في حين استطاع رياض قبيسي، في قرع الطبول والصراخ حتى حين كانت ملفاته غير مكتملة...
لا يطلب أحد من النائب فضل الله أن يلعب نفس دور الكاوبوي الذي يلعبه رياض قبيسي في برنامج "يسقط حكم الفاسد"، لكن على الأقل أن يرفع صوت المنار والنور قليلا فوق مستوى الدرجات الأولى التي بالكاد يسمعها الشعب اللبناني، بما في ذلك جمهور المقاومة الذي لن يقوم ٩٠٪ منه بقراءة هذا الملف...
لأن أمور هذا النضال ببساطة منوطة فقط بالقيادة...
تماما كما كان يجيبنا الرفاق في الحزب الشيوعي اللبناني ايام الاتحاد السوفياتي حين كنا نوجه النقد إلى البيروقراطية والفساد الضارب في المجتمع السوفياتي، حيث كانوا يعجزون عن الرد المنطقي فيقولون لنا...
"يا رفاق، اكيد قيادة الحزب تعرف وهي تعالج المسائل..."
ظلوا يرددون نفس الامر حتى وصلنا الى انهيار الاتحاد السوفياتي على أيدي الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي وقيادة الحزب الشيوعي في جمهورية روسيا الإتحادية...
قد يقول، وفي واقع الأمر، يقول كثيرون من التابعين لحزب الله أن هناك فعلا مشكلة ويجب أن يعلو صوت الحزب أكثر مما هو عليه الآن...
لكن الحقيقة هي أن خفوت صوت الحزب ليس ناتجاً عن عجز في الإمكانيات بقدر ما هو فعل إرادة بعدم خوض النزال حتى الأخير ضد الفساد والفاسدين...
حزب الله لا يزال كما كان الحزب الشيوعي الصيني في الثلاثينيات من القرن الماضي حين تملكه وهم الوحدة الوطنية ولم ير أن حزب الكيومينتانغ المتعامل مع بريطانيا وأميركا لا يمكن إلا أن يكون، كما كل الرجعيات، في كل الأوطان، تابعا لمعسكر الإمبريالية والإستعمار...
أن خفوت صوت محاربة الفساد داخل حزب الله هو سياسة رسمية لهذا الحزب الذي لا يزال مقتنعاً بأن سامي الجميل وميشال معوض وسمير جعجع وبقايا معسكر الغرب في لبنان من مستقبل وميقاتي ومن لف لفهما، يريدون فعلا بناء وطن...
هذا ما عبر عنه النائب محمد رعد، حين دعا الجميع إلى الشراكة في بناء هذا الوطن...
يبدو أن هناك قيادات من حزب الله تحتاج إلى الدخول في حلقات تثقيفية عن الصراع السياسي والاقتصادي وعن الفرق بين البرجوازية الوطنية التي قامت في الغرب ببناء الدولة الوطنية كما فعل شارل ديغول في فرنسا، أو كما حاول فيلي برانت وغيرهارد شرودر فعله في ألمانيا، وبين الرأسمالية الكومبرادورية( التي تلعب دور السمسار) التابعة للمركز عبر الأطلسي كما كان حال ساركوزي أمس وماكرون وزعامات بولندا وبحر البلطيق التابعين الف في المئة الى قيادة الولايات المتحدة الأمريكية داخل حلف الأطلسي هذه الأيام...
شئنا أن أبينا، يجب دراسة هيكلية حزب الله التي على ما يبدو لا تزال وسطية وغير قادرة على اتخاذ قرارات استراتيجية بأن الحرب ضد الفساد والفاسدين هي جزء لا يتجزأ من الحرب الوطنية الكبرى ضد الإمبريالية الأميركية تحديداً، وربيباتها الإقليميين من صهاينة ورجعية عربية، وقوى انفصالية عميلة...
إذا كان هذا الملف سوف يظل على هذا المستوى من النضال، لن يطول الأمر، قبل أن يتحول حزب الله الى حركة أمل جديدة، تتغنى بفكر الإمام الخميني عن الثورة دون أي جدوى فعلية تجري على الأرض.