حتى إشعار آخر، ورغم كل الشعارات البراقة التي تزين بعض الساحات في هذا العالم العربي الكبير، لا نزال نعيش في مرحلة الانحطاط...
طالما أن الأحزاب والتجمعات والفصائل وغيرها ممن يدعي امتلاك نبض الشارع، ولا يحرك ساكنا، ولا يحاول حتى اللحاق بالعفوية الثورية التي تظهر أو تخرج بين الحين والحين عند الجماهير... بل يبقى بعيدا عنها في الخلف...
طالما الأمور كذلك، نحن لا نزال نعيش في مرحلة الانحطاط...
أكثر من خمسة عقود مرت حين خاطب جمال عبدالناصر أول دورة تدريب لأشبال فلسطينيين في ارض مصر طالبا من الشعب الفلسطيني المقاومة حتى ولو بإشعال الحرائق؛
وحال الأمة يسير ببطء شديد؛ نحن لا نكاد نصل نقطة حتى يكون الاعداء قد تجاوزوا هذه النقطة بأشواط...
ما يجري في فلسطين هو ربما أكثر هذه الحالات إضاءة... لكنه يظل أقل بكثير مما يجب...
صحيح أن البطولات الفردية من طعن ودهس ومحاولات الانتفاض تزيد كل يوم أكثر من اليوم الذي سبق....
لكن هذه الحالات تبقى دوما حالات فردية؛ حالات تقترب من الجماعة دون أن تدرك مستوى التحرك الجماهيري الجماعي...
كل ذلك بسبب فقدان الحس الثوري الذي يستطيع اقتناص اللحظة الثورية عند الأحزاب والفصائل التي من المفروض أن تكون هي نبض الشارع كما تدعي...
ربما لا يستطيع أي كان، ولا يحق لأي كان توجيه انتقاد أو لوم إلى الشعب الفلسطينى، مهما خفت صوت هذا النقد، طالما الأمة العربية بأكملها تغط في سبات أهل الكهف...
لكن عندما يجب الوقوف وتوجيه ليس فقط النقد، بل التقريع أيضاً إلى مَن مِن المفروض أن يكون قيادة لهذا الشعب المنكوب، نجد أنفسنا أمام سلطة فلسطينية يصل مستوى استسلامها حد العمالة للاحتلال... لكن... ماذا عمن يضع نفسه خارج هذه السلطة...؟
ماذا عن حماس والجهاد والشعبية وغيرها ممن لا يتوقف عن مهاجمة أوسلو ويضع الخطوط الحمر تلو الخطوط الحمر، ثم يبتلع لسانه ولا يقوم بأقل الواجب... إشعال ولو عود ثقاب...
ينتقد البعض دعوات المغامرة والانتحار في مواجهة عدو مدجج بأحدث ما أنتجته آلات الحرب الغربية... وكأن هذا يغيب عن البال...
الحمد لله الذي جعل حزب الله سنة ٢٠٠٦ "يغامر"، ولا يحسب أن عملية الأسر سوف تؤدي إلى ما أدت إليه...
لقد كان هذا بركة من الله، أن أخفى عن قيادة حزب الله هول ما هم قادمون عليه...
لقد أراد الله لهم أن يتجاوزوا الخوف والحسابات التقليدية التي صبغت زمن الهزائم، لأنه كان يخبئ لهم خلف تلك العملية ما سوف يكون زينة زمن الانتصارات الآتية حتماً...
في الموازين العسكرية، يريد القوي دوما المحافظة على حالة الستاتيكو التي يسود فيها بفضل فائض القوة لديه...
أما الطرف الأضعف، والأقل تسليحا، فهو يملك سلاح دمار شامل غير مرئي اسمه قلب الطاولة على الجميع...
لدى الطرف الأضعف قوة كسر الستاتيكو...
لقد أظهرت حروب غزة المتتالية مدى ما تملك الفصائل من قوة كسر الجمود وكسر الإستقرار...
لقد وهب الله الفصائل في غزة هذه القوة وجعلهم يرونها في كل جولة وقعت حتى يثقوا بأنفسهم ويثقوا بشعبهم، ولا يترددوا لحظة في قلب الطاولة حين تلوح في الأفق مناسبة...
كم من مرة، تم التركيز على أن الطرف الأضعف في محور المقاومة الموجود في فلسطين يملك إمكانية تفجير الحرب وجر المحور والمنطقة إلى جولات قتال لا تريدها، فيستطيع عندها فرض إرادته وفرض مطالبه...
كم من مرة تمت الإشارة بأنه ما أن تشتعل أي جبهة عربية أو دولية، على الفصائل أن تعمل فورا على إشعال جبهتها...
في حرب سيف القدس، لم تستطع غزة إصابة أي حقل غاز على البحر المتوسط إصابة مباشرة بسبب عدم امتلاك الصواريخ الدقيقة...
هل عملت المقاومة منذ ذلك اليوم على التزود بهكذا صواريخ دقيقة...؟
إذا كانت الإجابة بالإيجاب، فإن على الفصائل عدم التأخر لحظة عن استهداف منصات الغاز...
وإذا كانت الإجابة بالنفي، فإن حرب سيف القدس استطاعت إيقاف إنتاج الغاز طيلة فترة الحرب، لذلك كان يجب، ولا يزال يجب على الفصائل استغلال الحرب الأهلية الأوراسية من أجل إعادة استهداف الغاز للدفع باتجاه وقف الإنتاج لأن هذا سوف يوجه صفعات الى اميركا والصهاينة والرجعية العربية المطبعة، ناهيك عن أن هكذا عمل سوف يدفع يهود أوكرانيا الذين تسعى دوائر الغرب إلى إرسالهم إلى فلسطين المحتلة، أن يفكروا ألف مرة قبل أن يقرروا المجئ إلى الأراضي المقدسة والاستيطان فيها...
يقول بعض الإخوة أن الحصار المضروب على غزة يمنع هذا الرد خوفا من جحيم الرد الصهيوني...
كأن أهل غزة والفلسطينيين يعيشون بمستوى انساني ولا يريد قادة الفصائل زعزعته...
لقد ابتكرت جماهير غزة سلاح البالونات الحارقة فقامت بما كان على الفصائل فعله دوما مع صواريخهم التي ملت الإنتظار...
ما ينطبق على فصائل المقاومة الفلسطينية في ضرب الستاتيكو والاستجابة العفوية الثورية ينطبق على المقاومة اللبنانية التي يوما بعد يوم، تجد نفسها في الموقع الخطأ، في النظام الخطأ...
تحشر نفسها، وتحشر جماهيرها الذين يجدون أنفسهم مضطرين للقيام بصفقات انتخابية غير مريحة على الإطلاق...
كثيرا ما يتلقى المرء اللوم بسبب عدم مراعاة الوضع الخاص لشعب يحاصره الإخوة قبل حتى أن يحاصره الأعداء...
لكن أليس هذا سببا كافيا، لكي يهب هذا الشعب ويقوم بانتفاضة تاريخية ترد على هذا الظلم التاريخي...؟
هل يعقل في ظروف احتلال وقمع وانتهاك كرامات ملايين الفلسطينيين، أن يخرج للتصدي بضعة مئات، وفي أحسن الأحوال بضعة آلاف من الناس للاحتجاج، بينما تبقى الأغلبية الساحقة من جماهير الضفة والداخل الفلسطيني في حالة تكاد تقترب من اللامبالاة passivité...
كأن الظلم يقع في بلد أخر أو في منطقة أخرى...
رغم عدم موافقة البعض على التمثل بالوضع الأوكراني، إلا أن ما يقوم به الفلسطينيون من احتجاج لا يرقى حتى إلى مستوى المقاومة الجماهيرية اليمنية رغم أن المؤامرة والحصار على اليمن هو مشابه إن لم يكن أكثر سوءاً من وضع الشعب الفلسطيني...
صحيح أن اليمنيين يخضعون أحياناً كثيرة إلى خطوط حمر إقليمية ودولية تأتي حتى من مركز محور الممانعة، إلا أن شعب اليمن يبدو أكثر ثورية وأكثر عزيمة... وكل ذلك بفضل وجود قيادة تبدي من العزيمة قدرا أكبر بكثير مما تقوم به الفصائل الفلسطينية...
رغم أن المعلومات المسربة تقول إن الصواريخ الدقيقة موجودة في أيدي المقاومة الفلسطينية، وتستطيع حتى على مواجهة الكيان وكل داعميه...
إلا أن ما نراه يظهر بوضوح كبير أن هذا الوطن بالرغم من امتلاك شعوبه العفوية الثورية، لا يزال يفتقر إلى القيادات التاريخية التي وحدها تستطيع قراءة اللحظة التاريخية، والتحرك لاحقاً لاحداث التغيير...