عندما أرسى الإغريق فكرة الديموقراطية كان الأمر يتمحور حول وجود أغلبية وأقلية...
يترافق هذا الوجود مع وجوب خضوع الثانية للأولى...
عندما وضع كارل ماركس وفريديريك أنجلس المانيفيستو الشيوعي الأول، أعطى الإثنان وصفاََ حقيقياً واقعياََ لهذه الديموقراطية عبر إطلاق صفة ديكتاتورية الأغلبية على الأقلية في هذا النظام الديموقراطي...
بما أن العمال (البروليتاريا) الذين يعيشون فقط من بيع قوة عملهم كانوا يشكلون الأكثرية في المجتمعات الصناعية الناشئة الناتجة يومها عن الثورة الصناعية التي شهدتها أوروبا في ذلك الوقت، رأى الإثنان أن الديموقراطية الحقيقية لا يمكن أن تتحقق إلا عبر ديكتاتورية الطبقة العاملة (ديكتاتورية البروليتاريا)...
بما أن بريطانيا وألمانيا كانتا رائدتان في هذه الثورة الصناعية، رأى كارل ماركس أن الديموقراطية الحقيقية (ديكتاتورية البروليتاريا) لا يمكن أن تتحقق إلا في مجتمعات مشابهة حيث تشكل الطبقة العاملة الأغلبية المطلوبة لفرض القوانين التي تحقق مصالح هذه الاغلبية في المجتمع...
لأن المجتمع الإنساني ليس قالباََ واحدا متجانساََ في كل الأماكن والأزمان، ولأن الظروف الثورية ممكن أن تتوافر في مجتمعات غير متقدمة بما يكفي لتكون أغلبية من الطبقة العاملة، لجأت تلك المجتمعات إلى أنواع أخرى من الديكتاتورية...
في روسيا القيصرية مثلا، حيث لم يكن التطور الصناعي أخذ مداه، أضاف لينين إلى العمال الصناعيين، طبقة العمال الزراعيين وصغار الفلاحين والجنود الذين كانوا أثناء الحرب العالمية الأولى يشكلون عنصرا مؤثراً في المجتمع الروسي...
هكذا استطاع حزب لينين البلشفي القيام بثورة شعبية يساندها تمرد الجنود وصغار الضباط، فتحقق ما يشبه الثورة الإنقلابية...
لم يكن الحزب الشيوعي الصيني قادرا على إيجاد طبقة عاملة في مجتمع زراعي غارق في التخلف، فابتكر ماو تسي تونغ نظرية قيادة الفلاحين الفقراء للثورة بسبب عدم وجود طبقة عاملة فاعلة، حيث تعمل الثورة على بناء دولة صناعية انطلاقاً من تراكم الثروة الزراعية التي تساعد ثورة الفلاحين على تكونها، وهكذا تلعب ثورة الفلاحين دور المحفز لإقامة مجتمع صناعي والوصول إلى ديكتاتورية العمال...
كما قيل اعلاه، تختلف الأنظمة باختلاف المكان والزمان...
في كوبا انتصرت ثورة من أقل من مئة (مغامر) قرروا كسر كل القوانين لبناء دولة قوية عادلة...
في العالم العربي، والكثير من بلدان العالم الثالث، قامت الجيوش بهذه المهمة عبر انقلابات كما فعل جمال عبد الناصر في مصر، والبعثيون في سوريا والعراق...
الخ...
لم يحدث إلا نادرا أن انتقلت المجتمعات من حالة إلى حالة أخرى سلميا ودون وقوع ثورة...
في علم الاجتماع، سواء مع ابن خلدون أو من درس المجتمعات، نكتشف أن الثورات حتى لو نجحت في تقدم هذه المجتمعات بمجرد استلامها للسلطة، فإنها لا تلبث أن تقع في مستنقع الركود، بسبب تباطأ الاندفاعة الثورية مع الوقت...
ثم، تموت هذه الثورات شيئا فشيئا مع تلازم كرسي السلطة مع القيادة الجديدة التي تتحول هي بدورها إلى جهاز إداري روتيني يكون ثوريا في البدء قبل أن يصبح بيروقراطياََ ( من كلمة bureau في الفرنسية، أي المكتب )...
تموت الثورة في المكاتب...
يموت الثوار في المكاتب...
الذي يتواجد في المكاتب، يكون عادة من القيادات أو من خيار تلك القيادات...(وزراء، نواب، مديرون، معاونون، مستشارون... الخ
حتى قاعدة حزب الثورة، لا تلبث أن تبدأ هي في الاستفادة من السلطة، أو على الأقل من قوة حزب السلطة أو حزب الثورة...
فقط الذين يتمتعون بوعي ثوري وضمير ثوري، هم من يصعب ان يجرفهم تيار البيروقراطية وفساد السلطة...
لقد أنهت ثورات العبيد المجتمعات البدائية دون أن تستطيع بناء مجتمع عادل...
غرق الكثيرون في الفوضى إلى أن اتى الملوك والأمراء الأقوياء، وقاموا بتأسيس الإقطاعات، وهكذا عرفنا المجتمعات الاقطاعية التي ما لبثت أن توحد معظمها بقوة السيف لتأسيس ملكيات استبدادية...
عندما نجح بعض العامة في مراكمة الثروات، اصطدموا مع سيطرة الاقطاعيين على شؤون الدول، فقاموا بالثورة الرأسمالية التي أنتجت المجتمعات الرأسمالية الصناعية التي تم تناولها أعلاه...
لم يدم النظام الرأسمالي كثيرا قبل أن تطيح به ثورة ما مما ذكر أعلاه...
لكي تستمر الثورة بالعطاء يتوجب توافر أمرين:
١-الوعي الثوري الذي يشكل ضرورة قصوى (nécessaire )،
لكن غير كاف (non - suffisant )...
٢-الضمير الثوري هو المكمل الطبيعي لكفاية الضرورة...
الثورات تَخرب بمجرد وصولها إلى السلطة أو مشاركتها في السلطة...
لذلك، ما أن ينجح حزب في ثورة ما أو في أخذ سلطة، عليه زيادة الصعوبات أمام المنتسبين الجدد...
معظم هؤلاء المنتسبين يكونون عادة من الانتهازيين الذين يريدون الاستفادة من هذه السلطة...
لذلك كان الانتساب إلى البلاشفة بعد انتصار الثورة الروسية صعب جداً....
كذلك كان الامر بعد وصول حزب البعث إلى السلطة...
لكي لا يعم الفساد في هذه السلطة أو هذا الحزب، يجب القبول بالنقد... القبول بالرأي الآخر...
لم يعرف التاريخ حزباً معصوماً...
منذ بضعة أشهر نصحني بعض الإخوة الكف عن تناول انحدار الفكر الثوري في حركة أمل...
صار الأمر مملاََ... برأيهم...
تضايق البعض الآخر من المقارنة الدائمة بين حركة أمل وحزب الله...
الكثير من الإخوة في حزب الله لا يؤمنون بانتشار العصمة في عصرنا هذا... لكنهم ينظرون بعين الشك الى كل نقد أو اي نقد يوجه إلى أي كان في حزب الله...
حين يعجزون عن الإجابة، يكتفون بالصمت المطبق...
أو في احسن الاحوال يجيبون بطريقة غير مباشرة عبر سيل من سرد "منجزات" حدثت هنا او هناك قام بها فلان أو فلان من الحزب...
أما حين ينوون الإجابة، يكون الأمر الثقة العمياء بخيارات القيادة... دون أي نقاش...
عندما تم انتقاد لا شفافية تلزيم المرفأ التي قام بها الوزير حمية...
لم يسمع أحد إجابة منطقية مقنعة على هذا النقد...
بالنسبة إلى هؤلاء، يكفي أن الشيخ نعيم قاسم قد وصف ما حدث بالشفافية رغم عدم وجود الكثير من مواصفات هذه الشفافية...
يذكرني ما حدث هذا، بشعارات كانت تكتب على الحيطان ايام الحرب الأهلية...
"الاسلام هو الصح، لأنه حق..."
الاسلام صحيح بالكامل لمن يؤمن بهذا...
إذا كان الشعار يكتب من أجل هذا الصنف من الناس...
فسواء كتب هذا الشعار ام لم يكتب، لن يتغير في الأمر شيئا لأن هذه الشريحة من الناس لا تحتاج إلى هذا الشعار...
هي مؤمنة بأن الإسلام صحيح وحق، بشعار، أو بغير شعار...
لكن عندما يتم كتابة شيء يجب إقناع من لا يؤمن بهذا الشعار...
يجب أن يحوي الشعار منطقا مقنعاً... وألا يكون الأمر وكان أحدهم يكتب على الحائط أنا اسمي فلان... شعار لا يقدم ولا يؤخر...
عندما تم انتقاد لا شفافية تلزيم المرفأ، لا يكفي أن يخرج الشيخ قاسم ويقول العكس...
المطلوب أن يتفضل الوزير نفسه، أو خبير في قضايا التلزيم ويتناول ما حدث وكيف أن الأمر كان شفافا فعلاً...
جعجع لا يحب حزب الله...
جعجع يكره حزب الله...
القوات تكره حزب الله...
جعجع يستطيع الكذب، وكذلك القوات...
٩٩٪ مما يقوله هؤلاء لا يستاهل حتى السمع أو القراءة...
لكن هناك دائما ١٪ يستطيع النيل من حزب الله...
يقول السيد نفسه عن نفسه أنه غير معصوم...
لكن هناك في حزب الله آلاف يتعاملون مع السيد على أنه معصوم...
فرضية أن يكون الحزب ارتكب أخطاء سوف تظل قائمة حتى لو أصر بعض أصحاب الرؤوس المربعة عدم رؤية ذلك...
فرضية أن يكون السيد أخطأ سوف تظل قائمة حتى لو كان السيد نفسه اعترف بهذا الخطأ...
هنا أريد الخوض في مسألتين:
١- ٧ أيار يوم مجيد...
رغم سكوت السيد نصرالله وعدم دفاعه عن مجد هذا اليوم مما يعني أنه يقر بخطأ هذا التوصيف...
أنا من المقتنعين ألف في المئة أن ٧ أيار كان يوما مجيدا فعلاً، رغم أن الأخ محمد رعد ومن رافقه الى الدوحة خربوا هذا المجد نزولاً عند رغبة الرئيس بري...
٢-يوم أجاب السيد في مقابلة تعليقا على حرب تموز أنه لو كان يعرف بأن ردة فعل الإسرائيلي كانت سوف تكون على ما كانت عليه لما اتخذ القرار...
هنا يقر السيد مرة أخرى بارتكاب خطأ، يراه الكثيرون من ثوار وأحرار هذه الأمة عين الصواب وقد وصل الأمر بالبعض إلى اعتبار ما حصل حكمة إلهية، أراد الله منها إظهار الحجة لنفس حزب الله ولنفس هذه القيادة أنهم أهل نصر وانتصارات...
الفرق بين هؤلاء الثوار والاحرار أنهم يؤمنون يثورية السيد حين يكون ثوريا، بينما الذين يرفضون النقد يوافقون السيد في الأمر وفي عكسه في الوقت نفسه...
يتخذ السيد قرارا عظيما... فيهللون...
يندم السيد أو يتراجع عن نفس هذا القرار...
يهللون أيضاً...
والله أن هؤلاء خطر جسيم على ثورية حزب الله على المدى البعيد...
هؤلاء سوف يذهبون إلى الجنة إذا استشهدوا اليوم أو غدا...
أما إذا عاشوا إلى ذلك اليوم الاسود الذي قد يأتي، لن يختلف هؤلاء عن الانتهازيين الذين تعج بهم حركة أمل... ولن تكون الجنة مثواهم
الملاحظات التي وصلت أمس على تعليق ربما يكون ظالما، والله اعلم، جعلتني افكر طيلة الليل...
هل أنا على حق في الخوف من انحراف الحزب...؟
هل أنا من القلة التي ترى إمكانية هذا الانحراف...؟
هل حزب الله دوما على حق...؟
هنا كانت الصاعقة...
لا حزب الله ليس دائما على حق...
قد يخطئ أحدنا في الإنتقاد...
لكن الذي ينتقد الحزب عن صدق ولو اخطأ، أفضل للمسيرة ألف مرة من أؤلئك الذين يسبحون ليل نهار لكل شيء ولأي شيء...
يقول المثل عندنا...
"ليش خايف من اللبن،
قلهم، لأنو الحليب كاويني.."
في عصر ذات يوم، عاد والدي من مهرجان مليوني لحركة أمل في صور، يوم كانت لا تزال حركة للمحرومين... عاد مسرورا لعظمة الحركة، مزهوا بفصاحة الرئيس بري... الذي لا يزال على نفس الفصاحة هو ونائبه في المجلس...
توفي والدي قبل أن يرى ما صارت عليه حركة أمل...
رحم الله والدي...
ورحم الله المحرومين...