المقال الذي نشر على موقع إضاءات عن محاضرة ضابط الاستخبارات وخبير الاستراتيجيات العسكرية التابع لكلية معهد الحرب الاميركي، مانوارينج، يجب أن لا يمر مرور الكرام لأكثر من سبب:
المحاضرة ألقيت في فلسطين المحتلة بحضور مجموعة من كبار ضباط العدو مع مجموعة أخرى من كبار ضباط حلف الأطلسي...
يمكن تلخيص المحاضرة بعنوان بسيط واحد:
كيفية القضاء البطيء على الدول! أو نوعية الحروب من الجيل الرابع الكفيلة بهذا الفعل...
يبدو أن المحاضرة كانت تتكلم بشكل واضح عن مناطق مختلفة من العالم الثالث التي يمكن أن تشكل تهديدا كامنا للإمبريالية الأميركية قد ينفجر في أي وقت...
كما يبدو أن ما حدث من ثورات ملونة وربيع عربي مزيف طال أكثر من قطر عربي هي التطبيق العملي لهذا النوع من الحروب الذي تقوده الإمبريالية الأميركية في سبيل مزيد من السيطرة، والإمساك أكثر حتى بالدول التي تدور في فلك أميركا، كما هي حال مصر وتونس ولبنان مثلاً...
في تونس، تعيش هذه الدولة أزمة سلطة عقب تعميم ثقافة الفساد الذي كان محصورا في الطبقة العليا من المجتمع حول زين العابدين بن علي وعائلته وحاشيته بالإضافة إلى من يعتبرون أنفسهم من كبار القوم من السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية...
نتيجة الإطاحة ببن علي، واستلام الإخوان المسلمين والأحزاب البرجوازية الصغيرة والوسطى السلطة، سادت في تونس ثقافة الاستفادة من العلاقات السلطوية لتحقيق مكاسب مادية ومعنوية غير مشروعة...
عادة ما لا تتجاوز نسبة الطبقة العليا الفاسدة ال ١-٤٪...
أما مع الطبقة الوسطى وما حوالي الطبقة الوسطى، ترتفع النسبة إلى أكثر من ٦٠-٧٠٪...
هكذا تم إفساد كل مؤسسات الدولة في تونس، وكذلك في مصر...
في لبنان، ارتبطت ثقافة الفساد منذ البدء مع الزبائنية التي كانت تربط المواطنين مع الطوائف في الدرجة الأولى، ومع زعماء هذه الطوائف الدينيين والدنيويين...
حاول الرئيس فؤاد شهاب بناء مؤسسات لربط المواطنين مع الدولة-الوطن، لكن انتهاء تأثير الحقبة الشهابية مع بداية السبعينيات، أسهم في عودة ارتباط الناس زبائنيا مع تلك الزعامات...
ساهمت الحرب الأهلية في تكريس ثقافة الزبائنية ونشرها على نطاق واسع... إلى أن جاء رفيق الحريري ليجعل من هذه الزبائنية سياسة عامة للسلطة في لبنان...
عن قصد أو عن غير قصد، نشر رفيق الحريري أسس تدمير المجتمع اللبناني...
جعل رفيق الحريري لكل زعيم طائفي ولكل منصب سعرا...
بحجة تجاوز البيروقراطية، كان رفيق الحريري يقوم بشراء الذمم...
كان سعر رئيس الجمهورية في لبنان ٥٠٠ ألف دولار شهريا...
كان سعر وليد جنبلاط هو سامسونايت تحتوي على مليون دولار بين الفينة والأخرى...
كان جنبلاط يذكر الحريري بموعد الشنطة عبر هجوم إعلامي ضد رئيس الحكومة، فيسارع الأخير إلى توضيب الشنطة وإرسالها...
مع حركة أمل، كان الأسلوب أكثر ذكاءََ وأكثر التفافا...
تم التبرع لحركة أمل بعشرات او مئات الألوف من الأسهم في سوليدير لتجنب معارضة الحركة لمشروع السطو على وسط العاصمة...
في النهاية، لم يكن رفيف الحريري بدفع من جيبه الخاص، كانت تلك الرشى تشكل نسبة ضئيلة جدا من الارباح الفاحشة التي كان يفرضها على الدولة من المشاريع التي كان يستولي عليها بأسعار تفوق الخيال، أو تلك التي يربط بها الجميع بكرعوبه...
نجح رفيق الحريري، وتم ضم حركة أمل إلى المنظومة مع وليد جنبلاط...
مسيحيا تولى الرئيس الهراوي وميشال المر تأمين الغطاء لدولة المحاصصة بين الطوائف، مع وضع رفيق الحريري يده العليا على كل شيء في لبنان مستعينا بالعائلة الحاكمة في الرياض، ومجموعة لصوص البيروقراطية من حزب البعث العربي الاشتراكي، والمخابرات السورية... (يقال إن عرس ابن عبدالحليم خدام في فرنسا جرى في أحد القصور الملكية وكلف عدة ملايين من الدولارات)...
لم يكن مجيء رفيق الحريري إلى السلطة في لبنان صدفة...
كان على الرجل إكمال تحويل الاقتصاد اللبناني إلى اقتصاد ملهى ليلي كبير...
اول ما قام به رفيق الحريري وفؤاد السنيورة، كان تخفيض الجمارك إلى درجة تسمح لطبقة التجار أن تنافس الصناعة اللبنانية... ثم الحق هذا التخفيض بفرض الضريبة على القيمة المضافة بنفس النسبة على كل السلع سواء كانت محلية أو مستوردة وهذا ما ضيق الهامش القليل جدا بين المحلي والمستورد وسمح للمستورد أن ينافس المحلي في عقر داره...
خلال بضعة سنين فقط تم القضاء على صناعة الأحذية في لبنان، وتم القضاء على مشاتل الورود والأزهار لصالح الشراكة المتوسطية التي جعلت من لبنان مجرد سوق لبضاعة أوروبا والمصانع الجديدة الناشئة في الخليج...
أراد رفيق الحريري تحويل لبنان الى مونتي كارلو عبر دفع الشعب اللبناني إلى الهجرة من وسط بيروت خاصة، ومن المناطق الشعبية التي أراد الاستيلاء عليها في العاصمة إلى الضواحي العشوائية في خلدة وعرمون وبشامون والشويفات...
الافضل كان دفع الناس للهجرة إلى الخارج وجلب المال الكافي لدورة اقتصاد الكازينو والملهى والمطعم على مدار السنة لأن الخليجيين هم زبائن موسميين وقد لا يكفون لسد احتياجات اقتصاد الريع القائم والذي قوة رفيق الحريري دعائمه...
كانت السلطة اللبنانية بأكملها كمن يجلس في حفرة ويقوم بالحفر أكثر وأكثر إلى أن صارت الحفرة على عمق لا يمكن الخروج منه...
السلطة حفرت لشعب لبنان ثم استعملت حبال النجاة للخروج هي وترك الناس داخل الحفرة...
ما نشرته أمس جريدة الأخبار عن العروض الأوروبية لمساعدة لبنان هو دور الشرطي "الجيد" الذي يعرض الجزرة...
كنا قبلها قد رأينا الأميركيين يلعبون دور الشرطي القذر...
الأميركيون والأوروبيون هم من كان يساعد السلطات في لبنان على الحفر حتى دب الإنهيار...
شروطهم لمد حبال نجاة لنا قليلة نسبياً، لكنها بالغة الوقاحة إلى درجة العهر...
المطلوب أن نخرج عراة من الحفرة ونسلم أنفسنا لتجار الرقيق الأبيض...
للحصول على الكهرباء، يجب كذا،
للحصول على الدواء، يجب كذا،
لاستخراج النفط، يجب كذا وكذا...
للتنفس والأكل والشرب، يجب بيع الاولاد...
في أفغانستان تجري عملية بيع الفتيات مباشرة ودون مواربة...
لأن جاهلية طالبان، تسمح بذلك.
في لبنان، في القرن الواحد والعشرين، يتم البيع بطرق حضارية لا تختلف عن "المطعم اللي بيبرم في الخليج" كما ورد في مسرحية زياد الرحباني، "بالنسبة لبكرا، شو؟"...
اللبنانيون الذين ذهبوا وانتخبوا...
اللبنانيون الذين يهددوننا بالفتنة والحرب إذا ما ثرنا...
الجواب على سؤال بالنسبة لبكرا شو؟
هو إما ثورة حضارية وإقامة سلطة وطنية غير تابعة للخارج، أو مزيد من الفوضى قد يصل إلى الكثير من تلك القصور والبيوت التي تعتقد أنها محمية، وهي قطعا غير ذلك...