بقلم : محمد النوباني
تحل اليوم الذكرى ال ٥٥ للهزيمة المدوية التي ألحقتها إسرائيل بالعرب، بدعم امريكي واضح ولا لبس فيه، في عدوان الخامس من حزيران عام ١٩٦٧، والذي نجم عنه احتلال ما تبقى من فلسطين التاريخية بالاضافة الى شبه جزيرة سيناء المصرية وهضبة الجولان السورية.
لقد أدخلت نتائج تلك الحرب المنطقة في أسر الحقبة الامريكية- الإسرائيلية، واسست لغيرها من الهزائم التي لحقت بألعرب والفلسطينيين، فيما بعد، قبل التحول الذي طرأ على موازين القوى في المنطقة، عقب هزيمة اسرائيل وخروجها صاغرة من جنوب لبنان عام 2000 ، وهزيمتها في حرب ٢٠٠٦ مع المقاومة اللبنانية، وفي الحروب الاربعة، التي خاضتها مع المقاومة الفلسطبنية في قطاع غزة وآخرها معركة "سيف القدس" عام٢٠٢١.
عود على بدء فإن كل الوقائع تشير إلى هزيمة حزيران ما كان لها أن تحدث لولا لعبة الخداع والتضليل قامت بها الولايات المنحدة الامريكية للزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر.
وفي التفاصيل فقد أوحت واشنطن لجمال عبد الناصر بوسائل دبلوماسية خسيسة بان اسرائيل لن تبادر بالهجوم على مصر مما مكنها من توجيه الضربة الاولى القاصمة للجيش المصري والوصول الى قناة السويس في غضون ستة ايام , والحاق هزيمة قاسية بجيوش ثلاث دول عربية هي جيوش مصر وسوريا والاردن .
نقول ذالك لأن البعض من ظهرانينا ما زال يراهن على كل ادارة امريكية جديدة تاتي الى البيت الابيض, واخرها ادارة جو بايدن المجرمة , رغم ان كل الادارات الامريكية المتعاقبة منذ مؤامرة قرار تقسيم فلسطين عام 1947، على الاقل، وحتى اليوم اثبتت انها حليفة وداعمة وحامية لاسرائيل ومعادية حتى النخاع لقضايا الامة العربية وفي مقدمتها قضية الشعب الفلسطيني.
ولكي نسلط الضوء على ذلك الشرك او الفخ، فعندما تولى الرئيس الامريكي الاسبق " لوندون جونسون " الرئاسة في الولايات المتحدة الامريكية رمى بكل ثقل بلاده المادي والمعنوي لدعم اسرائيل وتمكينها من الحاق الهزيمة بالعرب حيث قرر في العام 1965 بيع اسرائيل السلاح بصورة علنية. وللتعمية على فعلته المنحازة لاسرائيل والمعادية للعرب بعث جونسون برسالة الى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر يخطره منها بان امريكا قررت بيع صواريخ "الهوك" "للدولة العبرية" لمواجهة قاذفات القنابل الروسية الصنع الموجودة لدى مصر لانها معنية على حد تعبيره بألحيلولة دون اختلال توازن القوى في المنطقة والذي يشجع على نشوب الحرب .
وحذر جونسون في رسالته المذكورة لعبد الناصر العرب من مغبة تضخيم قضية بيع الاسلحة لاسرائيل لانهم ان فعلوا ذالك فسوف يتسببون حسب رايه في تصعيد حدة التوتر في الشرق الوسط.
وحتى تكتمل معالم عملية الخداع فقد اعلن اسحق رابين رئيس اركان الجيش الاسرائيلي انذاك ان الجيش الاسرائيلي سوف يشن هجوما خاطفا على سوريا لاحتلال دمشق واسقاط نظام الحكم فيها ومن ثم الانسحاب والعودة الى المواقع الاصلية بذريعة الرد على العمليات العسكرية التي كان يشنها الفدائيون الفلسطينيون على اسرائيل انطلاقا من الحدود السورية .
كما اعلن ليفي اشكول رئيس الوزراء الاسرائيلي انذاك ان اسرائيل مستعدة لاستخدام القوة ضد سوريا.
فما كان من مصر إلا ان ردت على ذالك التهديد الاسرائيلي باعلان حالة الطوارىء في القوات المسلحة المصرية بهدف الضغط على اسرائيل لتهدئة الموقف على الجبهة السورية.
وفي 16 ايار 1967 قرر المشير عبد الحكيم عامر وزير الحربية المصري انذاك ممارسة المزيد من الضغط على اسرائيل , فاصدر رئيس الاركان المصري محمد فوزي امرا لقوات الطوارىء الدولية العاملة في سيناء باخلاء مواقعها طالبا من القوات المسلحة تنفيذ ذالك القرار .
وفي اعقاب هذا التطور كلف الرئيس جونسون سفير الولايات المتحدة لدى مصر بنقل رسالة الى الرئيس عبد الناصر أكد له فيها على حسن نواياه تجاه مصر نافيا وجود اتجاهات غير ودية لدى واشنطن تجاه مصر.
واشاد جونسون في تلك الرسالة بجهود عبد الناصر في مجال التنمية الاقتصادية متحدثا بعدها عن اهمية تجنب نشوب الحرب ومشددا على ان النزاعات يجب ان لا تحل بالاجتياز غير المشروع للحدود بالقوات المسلحة ومقترحا ان يقوم نائبه "هيوبرت همفري" بزيارة للشرق الاوسط لتخفيف التوتر.
وذكر جونسون في رسالته ان حكومة مصر والحكومات العربية الاخرى تستطيع ان تتأكد بيقين وان تعتمد على أن حكومة الولايات المتحدة تعارض معارضة صارمة اي عدوان في المنطقة من اي نوع ، سواء اكان مكشوفا او في الخفاء وسواء قامت به القوات المسلحة النظامية او قوات غير نظامية ، وبانها ستقف ضد اي طرف يبادىء بالاعمال الحربية .
ويذكر المرحوم محمود رياض الذي كان يشغل منصب وزير الخارجية المصري انذاك في مذكراته "البحث عن السلام والصراع في الشرق الاوسط " بان تلك الرسالة الامريكية والتعهدات الرسمية التي قدمت لمصر قد ساهمت في عملية الخداع الكبرى والتي قادت الى الهزيمة.
ويشير رياض في مذكراته الى ان الامر الذي لا شك فيه انه لولا الخداع الامريكي لكان بمقدور عبد الناصر القيام بضربة وقائية كان من شانها ان تحول دون كارثة 1967 , لانها كانت ستمكن سلاح الطيران المصري من تدمير جزء من سلاح الجو الاسرائيلي وستحول دون تدمير الطائرات الحربية المصرية وهي رابضة على الارض في قواعدها صباح الخامس من حزيران .
ولم تكتف الولايات المتحدة بالخداع والتمويه الذي مارسته فأمرت الاسطول السادس الامريكي في البحر المتوسط بالستعداد لمواجهة اي موقف عسكري حيث توجهت قطع منه الى شرق البحر المتوسط ثم ارسلت الباخرة الامريكية "ليبرتي" للتجسس على التحركات والتصالات المصرية في سيناء ، وهي الباخرة التي اكتشف امرها فجاة اثناء الحرب حينما اغارت الطائرات الاسرائيلية عليها عن طريق الخطأ.
وعندما بدات العمليات الحربية من جانب اسرائيل التي اعتدت على ثلاث دول عربية قال "دين راسك " زعم وزير الخارجية الامريكية انذاك بانه لا يعرف من هو الطرف الذي بدأ بالحرب.
ومن نافلة القول ان كلام "راسك " لم يكن صحيحا لانه لو افترضنا جدلا بان امريكا لم تكن على علم مسبق بساعة الصفر فان الاقمار الصناعية الأمريكية لاغراض التجسس كان تعرف على وجه القطع من هو الطرف الذي بدأ الحرب .
وقد كشفت العديد من المصادر عن ان وكالة المخابرات المركزية الامريكية لعبت دورا مهما في اتخاذ قرار الحرب حيث اكدت لجونسون انه لا توجد خطة او استعدادات في مصر للهجوم على اسرائيل ، الا انها اكدت ايضا ان القوات الاسرائيلية بوسعها كسب الحرب.
وقد علم ابا ايبان وزير الخارجية الاسرائيلي انذاك براي المخابرات الامريكية عند زيارته للبنتاغون يوم 26/5/1967 في حين ذكره جونسون لدى اجتماعه به بجملته المشهورة التي تطرح بوضوح استعداد امريكا لمساندة اسرائيل في الحرب القادمة والتي قال فيها ان اسرائيل لن تكون وحدها الا اذا قررت هي ان تعمل بمفردها .
وعندما ابلغ السوفيات ادارة جونسون ان اسرائيل تعد العدة للهجوم على مصر اكتفت تلك الادارة بارسال المعلومات الى ليفي اشكول رئيس الوزراء الاسرائيلي في ذالك الوقت دون ان تتخذ اي اجراء لمنع العدوان.
وبعد نشوب الحرب وتحديدا في اليوم الثاني "6حزيران " عندما بادرت كل من فرنسا والهند الى تقديم مشروع قرار مجلس الامن يطالبون فيه بوقف اطلاق النار وانسحاب القوات الاسرائيلية الى خطوط الرابع من حزيرات 1967 ظلت امريكا لوحدها تصر على عدم الاشارة الى الانسحاب مستخدمة في ذالك كل وسائل الضغط والتعويق والمناورة مما مكن اسرائيل من مواصلة احتلال المزيد من الارض .
وتذكر المصادر انه بتاريخ 18-7-1967 توصل المندوب الامريكي في الامم المتحدة " ارثر جولدبرج" مع السفير الروسي "دوبرينين" الى مشروع قرار يقدم للامم المتحدة وينص على مبدا عدم جواز احتلال اراضي الغير بواسطة الحرب طبقا لميثاق الامم المتحدة، ويطلب من اسرائيل القيام بدون تاخير بسحب قواتها من الاراضي التي تم احتلالها ، في حرب حزيران الا ان الولايات المتحدة سحبت موافقتها على مشروع القرار بعد اقل من 48 ساعة من الاتفاق عليه مع السوفيات.
ومن نافلة القول ايضاً ان اشكالية ال التعريف المتعمدة الواردة في القرار 242 الصادر في 22-11-1967 والتي استند اليها لدى صياغة وطرح العديد من مشاريع الحلول السياسية التصفوية الخاصة بالقضية الفلسطينية كان مصدرها الولايات المتحدة الامريكية، وكان الهدف منها مساعدة اسرائيل للاحتفاظ بالاراضي التي احتلتها في عدوان حزيران .
فالقرار 242 هو عبارة عن توليف بين مشروعي قرارين قدما لمجلس الامن هما مشروع امريكي واخر بريطاني مشروع الامريكي من اصل يهودي ارثر جولدبرغ سفير الولايات المتحدة لدى الامم المتحدة في ذلك الوقت والمشروع البريطاني الذي اعده وزير خارجية بريطانيا آنذاك جورج براون وقدمه مندوب المملكة المتحدة لدى الامم المتحدة اللورد كارادون الذي شغل منصب حاكم اللواء الشمالي في فلسطين اثناء ثورة 1936-1939 والمسؤول عن سفك دماء الكثيرمن الفلسطينيين الابرياء.
فقد تعمد ارثر جولدبرج في المشروع الذي تم دمجه مع المشروع البريطاني القول بان مجلس الامن الدولي يؤكد بان تحقيق حالة من السلام العادل والدائم في الشرق الاوسط تشمل انسحاب قوات مسلحة من اراضي محتلة .
وقد ثبت هذا الغموض المتعمد في النص الخاص بالانسحاب من نص القرار 242 حيث وردت عبارة انسحاب القوات الاسرائيلية من اراض احتلتها في النزاع الاخير حسب النص الانجليزي , بينما وردت العبارة مضاف اليها ال التعريف لتصبح في النصوص الرسمية الاربع الاخرى ( الروسية , الفرنسية , الاسبانية , والصينية ) الانسحاب من الاراضي التي احتلت في النزاع الاخير .
واليوم وبعد انقضاء قرابة ٥٥ عاماً على صدور القرار 242 يتضح لنا بجلاء ان اللذين صاغوا ذالك القرار لم يكونوا يلعبون وانما يمكنون اسرائيل من الالتفاف على القرار المذكور والاحتفاظ بالضفة الغربية وقطاع غزة والجولان السوري المحتل بعد ان ادعت بانها نفذت القرار عندما انسحبت من سيناء المصرية. بكلمات اخرى فان من صاغ القرار242 اراد وضع اي مفاوضات سلام مستقبلية مع العرب , وهو ما سمي لاحقا بالمسيرة السلمية بكاملها تحت رحمة التفسير الاسرائيلي للنصوص لتدخل العملية التفاوضية بعدها ليس في تطبيق حلول سياسية وانما في عملية تفاوض على معاني كلمات ونصوص مبهمة وتفاصيل مملة لكي تستمر العملية الى ما لا نهاية ويبقى السلام بعيد المنال
استناداً الى كل ما تقدم فان الاستفادة من دروس وعبر حرب الخامس من حزيران عام 1967 تعلم ان الولايات المتحدة الامريكية لا زالت كما كانت قبيل واثناء وبعد تلك الحرب سندا وداعما وحليفا استراتيجيا لاسرائيل وفوق كل ذالك شريكا دائما لها في كل عدوان تشنه على الفلسطينيين والعرب.
ومن ينتظر ان يأتيه الفرج من زيارة قد يقوم بها بايدن للمنطقة لن يحصد غير الوهم.
ختاماً فإن حديثنا عن دور امريكا في تضليل جمال عبدالناصر في تلك الحرب لا يستقيم دون الإشارة إلى الدور الذي لعبته السعودية في تلك الحرب.
فقد طلب الملك السعودي الراحل فيصل في رسالة بعث بها عام ١٩٦٦ إلى الرئيس الامريكي لوندون جونسون بالايعاز لإسرائيل بتوجيه ضربة عسكرية ساحقة للجيش المصري لأنه بدون ذلك سيبقى عبد الناصر مصدر تهديد لمصالح أمريكا والسعودية والغرب في المنطقة.