عندما يتناول البروفيسور محمد كاظم المهاجر مسألة استمرارية المراحل الثورية والانطلاق من مرحلة إلى مرحلة أخرى أكثر تقدماً في المعيار الثوري والتاريخي، هو مبدئيا يتحدث عن الثورة الدائمة التي كلما ضاق جلدها، تخلصت منه وارتدت جلدا آخر يناسب المرحلة اللاحقة الأكثر ثورية...
يفصًل البروفيسور هذا الموقف عبر ملاحظة تطور الوضع الذاتي لحزب الله مترافقا مع تطور القدرة الميدانية منذ الثمانينيات وحتى اليوم...
نظرية الثورة الدائمة التي تحدث عنها ليون تروتسكي مشابهة إلى حد بعيد لنظرية نشر الثورة بفاعل ذاتي أكثر منه موضوعي من وجهة نظر تشي غيفارا الذي انتقل من كوبا إلى الكونغو ثم إلى بوليفيا قبل أن يسقط شهيدا لعدم توفر الظروف الموضوعية للثورة...
هي نفس المقولة الخمينية الشهيرة التي انتشرت مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران حول تصدير الثورة...
تبين التجربة التاريخية أن الثورة لا تستطيع أن تكون دائمة ومستمرة بعد بناء الدولة، أذ غالبا ما تنمو في رحم هذه الثورة طبقة بيروقراطية طفيلية تعيش على الشعارات الثورية ولكنها سرعان ما تتحول الى طبقة فاسدة تريد الاستفادة من مواقعها في السلطة للإغتناء ومن ثم لمراكمة المال تماما كما في النظام القديم...
فلا الثورة الكوبية استطاعت أن تحافظ على نفس الوهج الثوري كما في مراحله الأولى، ولا إيران استطاعت أن تحافظ على الوهج الأول حيث استمر صراع الأجنحة داخل السلطة دوما بين تيار يعتبر نفسه أميناً على فكر الامام الخميني، وتيار يدعو إلى الواقعية السياسية والتعامل مع بقية الدول من منطق الدولة وليس من منطق الثورة...
هل يحق للدولة أن تناور وتساوم باسم الحفاظ على المكتسبات؟
هذا ما فعله البلاشفة في الاتحاد السوفياتي...
هذا ما فعلته الثورة الماوية في الصين، وهذا ما فعلته الثورة الكوبية وطبعا هذا ما فعلته الثورة الإيرانية...
هل يحق للثورة وقبل أن تصبح دولة، أن تسير على نفس هذا النهج في المناورة والمساومة؟
هذا سؤال لم يجد التاريخ له إجابة إيجابية حتى يومنا هذا...
كل الثورات، وكل الأحزاب الثورية التي ناورت أو ساومت، لم تلبث أن وقعت في فخ تلك المساومات والمناورات، وتحولت شيئا فشيئا إلى أن تصبح عبئا على نضال الشعوب...
ابرز مثال على هذه النظرية هي الثورة الفلسطينية التي وقعت في شر أعمالها حتى قبل انتصارها وبناء الدولة...
هل يمكن وضع حزب الله في نفس السلة مع الفصائل الفلسطينية...؟
حتى اليوم يبدو فعلاً أن التصنيف الأوروبي لحزب الله بين جناح عسكري وجناح سياسي هو رؤية تستحق النقاش...
ربما لا يوجد فاصل واضح بين جناح عسكري وآخر سياسي في الحزب... لكن يبدو أن هناك نهجين في الحزب يتداخلان بعض الشيء ولكن الغلبة تتأمن كل يوم أكثر لتيار "الواقعية" على حساب نهج الثورة المناضلة المقاتلة...
حتى الأمس، لم يكن حزب الله قد ابتعد عن نظرية الكفاح المسلح كما ابتعد بعد موافقة الحزب الضمنية ودعمه لما وافقت عليه سلطة الفساد والأمر الواقع في لبنان في قضية الخطوط البحرية والمياه الاقتصادية...
جماعة الواقعية السياسية في حزب الله هم جماعة بدنا نعيش داخل مجتمع المقاومة...
لهؤلاء أكثر من رديف في كل مجتمعات محور الممانعة...
لقد سعت حركة حماس كثيرا لتوقيع اتفاق هدنة مع العدو تحت شعار صلح الحديبية بين الرسول والمشركين... وقد لطف الله لأن الكيان الإسرائيلي رفض هذه الهدنة...
حزب الله لم يوقع على أي اتفاق هدنة مع العدو...
لا يمكن لأي كان أن يرى حبر توقيع يحمل اسم حزب الله...
لكن الوقائع على الأرض، وكل التسريبات تقول إن هناك توقيعا خفيا لا تراه العيون، لكنه موجود...
توقيع يقبل بهدنة قد تستمر عقودا من الزمن بحكم الأمر الواقع وفق المحللين الذين يرون الأمور بوضوح ويسمون الاشياء بأسمائها بدل الهيصة والصراخ والاستعراضات التي يقوم بها مجموعة "ماسحي الجوخ" من "الإعلام المقاوم!!!"
هؤلاء، عادة ما يكونون سماسرة الثورات...
في وضع لبنان، هؤلاء سماسرة المقاومة...
ينظر المرء إلى وجوه هؤلاء فإذا تلك الوجوه لها نفس تقاسيم المنظًر (الجعدنجي) رؤوف في مسرحية نزل السرور مع زياد الرحباني...
ما بدأ انغماسا بريئا في سلطة الفساد، صار انتماء واعيا لمنظومة الفساد...
محاولة تبرير أخطاء المقاومة منذ أن دخلت السلطة صارت منافية للمنطق...
بالتأكيد، سوف يظل موقف العداء المستحكم لإسرائيل وما حدث سنة ٢٠٠٠ و٢٠٠٦ يكبل أصابع الاتهام ويجبر الألسنة على عدم نطق كلمات الإدانة بحق هذه المقاومة...
لكن الاكتفاء بوصف مجمل سياسة الحزب في القضايا الداخلية بالعجز صار بحد ذاته عجزا في التوصيف...
كيف يمكن لوزراء الحزب أن لا يروا كل الصفقات التي كانت تجري أمامهم وفوقهم وتحتهم وما حولهم...؟
كيف يمكن لوزراء الحزب أن لا يروا مافيا الوقود ومافيا الموتورات ومافيا الدواء ومافيا المصارف وكل المافيات في كل المجالات منذ أن دخلوا إلى السلطة سنة ٢٠٠٥ وحتى يومنا هذا...؟
كيف يمكن لوزراء الحزب أن لا يروا ماذا كان يجري في مفاوضات ترسيم الحدود وكيف قام فؤاد السنيورة بفعل الخيانة في قبرص حين وضع خط النقطة رقم واحد...؟
كيف يمكن لوزراء حزب الله أن يسمحوا لنجيب ميقاتي بإخفاء الدراسة البريطانية التي أعطت لبنان على الأقل حتى خط النقطة ٢٩، رغم أن مجلس الوزراء كان قد كلف هذه الشركة برسم الحدود، وكانت نتائج الدراسة على جدول مجلس الوزراء قبل سحبها وإخفائها منذ ٢٠١١ على يد نجيب ميقاتي...؟
هل يعقل أن يستطيع رياض قبيسي ومهدي شمس الدين كشف كل الفساد في الوزارات وفي المصارف وفي المصرف المركزي وان يستطيع هذان الصحافيان كشف التلاعب في سياسة الدعم ولا يستطيع حزب الله ولا أجهزته ولا وزراؤه ولا نوابه على كشف أي شيء من كل هذا...؟
هل يعقل أن يتم تبديد ٢٢ مليار دولار على الدعم الذي ذهب إلى جيوب التجار والناس تصرخ والخبراء يتحدثون كل يوم ضد هذا الدعم العشوائي الذي يساعد الفقير بليرة ويعطي الغني في المقابل آلاف الدولارات، ويقوم وزراء الحزب ونوابه بتغطية كل هذا بشعبوية كانت تدعو إلى القرف حتى وصلت اليوم إلى اتهام هؤلاء بالضلوع والمشاركة في مسرحيات الدعم الهزلية التي كنا نرى نواب الحزب فيها دوما في دعاية حزبية رخيصة...
لكن كل هذا في كفة، وما حصل في الأيام الأخيرة وسمح لأهل السلطة بالتخلي عن مساحات شاسعة من المياه الاقتصادية من أجل منافع شخصية تتعلق برفع العقوبات وحماية شركات خاصة والخضوع للإبتزاز الأميركي... كل هذا في كفة أخرى...
أما الطامة الكبرى فهي إذا صدَق تحليل الإعلامي جوني منير الذي عززته شائعات طاولة حوار في جينيف وأخرى في الدوحة أو القاهرة، حيث سوف يتم تكريس النظام الطائفي مع بعض الرتوش لدستور الطائف...
يقول جوني منير أن حزب الله ليس انتحاريا حتى يقف في وجه الرياح الأميركية...
لقد عهدنا حزب الله حزبَ مقاومة العين للمخرز...
لقد عهدنا حزب الله حزب الدم الذي ينتصر على السيف...
لقد عهدنا حزب الله حزب الاستشهاديين حين يتخلخل ميزان القوة...
القول إن حزب الله ليس انتحاريا يدق مسمارا في عقيدة الشهادة لهذا الحزب...
أليس حزب الله هو حزب من قال إن قتلنا عادة وموتنا من عند الله شهادة...
نريد أن نرفض تصديق وقوع حزب الله في الفخ الأميركي...
لكن ١٥ سنة من السياسات الخاطئة لا يمكن أن يكون إلا نهجاً يسير نحو الهاوية في خطوات متتالية لا تتوقف رغم صرخات التحذير التي لا تنقطع والتي لا يريد حزب الله سماعها...
حليم خاتون