لم يعد خافيا على الجميع من ان العالم دخل المرحلة الانتقالية من الخروج من نظام عالمي معرض للانهيار ، والدخول الى نظام عالمي جديد ، وان ما يحدث من صراعات في الرقعة الجغرافية العالمية اليوم وهو لفظ النفس الاخير من قبل المهزوم .
بدات مرحلة صراع الاقطاب منذ قيام ما يعرف بداعش ( دولة ألا إسلامية في العراق والشام) وفشل مشروع داعش ، وتمايز الاقطاب الدولية واصطفافاتها ، واتخاذها مواقع محددة ،ودخولها بتحالفات عسكرية ذات اهداف تمثل وجهه نظرها وتفسيرها لهذه الحرب .
على سبيل المثال ظهر القطب الروسي ( ذو رؤية سياسية عسكرية ) مناقضة للقطب الامريكي من خلال اتخاذها مواقع مع سوريا والى جانب ايران وحزب الله في جبهة واحدة وهو موقف يناقض بالكامل ومتفوق على الولايات المتحدة التي تعادي كل هولاء الاطراف المتحالفة من جهة ، ومن جهة اخرى تمايز دور الصين ( ذو الرؤية السياسية الاقتصادية ) من خلال خطتها لعالم تتصاعد فيه التنمية من خلال الطريق والحرير ، فكانت منابع هذا الخط من اواسط اسيا مرورا بايران والعراق وسوريا وتركيا … وبالتالي فهي ذات توجه اقتصادي منافس ومناقض بل ومتفوق على الولايات المتحدة .
مع عدم اغفال حقيقة ان المنابع الفكرية للمذاهب العالمية السائدة هي محصورة بين الراسمالي والشيوعي ، والصين والاتحاد السوفيتي السابق ينتميان الى المعسكر الشيوعي ( الصين )، وهو منهج منافس للرأسمالي بكل ابعاده الاجتماعية والاقتصادية ، وقواعد عقائدية روسية نقية حره تقود الكنيسة الارثوذكسية.
وهو بكل هذه الابعاد يشير الى تمايز (التضاد الحضاري والفكري ) تحاول ان تشق طريقها على ارض الواقع بعيدا عن امريكا .
في الجغرافيا السياسية ، وعند دراستنا لمناطق اواسط اسيا ، وجنوب شرق اسيا ، نلاحظ ان الاقطاب المنافسة للولايات المتحدة تتواجد في اسيا ،اوراسيا ، ( الصين ، الهند ، روسيا ) ذات موقع جغرافي تمثل فيه روسيا ( قلب العالم) اقليم ذو موارد طبيعية وبشرية هائلة ، يزود العالم بمختلف المنتجات لجميع القطاعات ، ناهيك عن انها بلاد فتية متجددة .
من خلال كل هذه الاولويات ، تظهر اشكالية التفاوت في العامل الحضاري لكل تلك الدول باعتبارها اقطاب صاعدة بالمقارنة مع الولايات المتحدة التي تنوء تحت ضغط وفشل العامل الاقتصادي والاجتماعي - وخاصة العنصرية من توحيد المجتمع الامريكي -باستثناء الهند .
وعند الوقوف عند مرحلة داعش نلاحظ تلاقح العامل الحضاري الروسي والصيني مع العامل الحضاري الاسلامي بنسخة جمهورية ايران الاسلامية ، وهذا العامل تحديدا كان يشكل نوع من الحل والارتياح لكل خبراء السلطة الامريكية ، من ان هناك صعوبة لخلق التجانس بين هذه العوامل الحضارية النقية ، مما يشير الى انتفاء الاستفادة من هذا الجانب من قبل الجانب الراسمالي الامريكي ، واصبحت الاشكالية اكثر تعقيدا لهم امام شبكة العلاقات والاتفاقيات ذات الابعاد المتعددة بين (ايران وروسيا ) و( وروسيا والصين ) و ( الصين وايران ) يرافق كل ذلك تكتلات اقتصادية كبيرة قابلة للاستيعاب كتكتل شنغهاي ، وتكتلات مالية وسياسية ، تكتلات مندفعة حضاريا ، بالضد مما يمثله الجانب الامريكي ، مما يشير الى تسارع تآكل القطب الامريكي امر لا مفك منه ، ليضع اشكالية امام الولايات المتحدة عن الكيفية او الاستراتيجية المتبعة من قبلها للتخفيف من وطأة سقوطها امام العالم؟
من المؤكد ستكون طوق النجاة لها هو اللجوء الى الفوضى الخلاقة في الساحة العالمية ، ومحاولة استثمار هذه الفوضى والتواجد فيها كمدافع عن العدالة وحقوق الانسان والديمقراطية ، ولو تتبعنا اولويات امريكا سابقا نجد انها كانت تقوم على نشر النظام الرأسمالي تبني اقتصاد السوق والانفتاح ونشر الديمقراطية والحرية والعمل على الحد من انتشار الاسلحة فوق التقليدية والقضاء على الارهاب، والتوظيف الامثل في التواصل مع الشعوب كل هذه الاطر التي تم استنفاذ طاقاتها ولم تعد ذات جدوى او ثقل تستطيع امريكا عن طريقه من تحسين صورتها ، نتيجة لتدخلاتها الفجة تحت تلك العناوين لذلك باءت بالفشل ،
الفشل الذي تخافه امريكا تعدى الى ساحات الامن القومي الامريكي كانت تعتبرها ثابتة مثل :
١- ساحة الكيان الصهيونى وتفاقم مشكلات النظام الحاكم فيها ، وتمايز ضغط الدور العقائدي المغلق ، الى جانب ما يعرف بهيكلية الدولة المنخرطة في الساحة العالمية ، وهما خطان غير قابلان للاتحاد لاختلاف الهدف المنشود . بالاضافة الى تعاظم دور المقاومة والانتفاضة الفلسطينية التي تقف بالضد من النموذجين الصهيونيان.
٢- ساحة اوربا : اسوء ما تمر به اوربا هو ان يتم توظيفها كأداة في الحرب الروسية - الاوكرانية وظهور الدول الاوربية وكأنها مسلوبة الارادة ، وتمايز عامل الانفصال السياسي عن الاجتماعي في اتخاذ القرار بين النأي بالنفس او الانخراط في الحرب الى جانب اوكرانيا ، واذعان مختلف الدول الاوربية امام منظمات الضغط المالي ( فرنسا ، المانيا، ايطاليا… ) ترسل الاسلحة والدبابات كمساعدة لاوكرانيا ، على الرغم من ان التحقيقات الاولية الالمانية تشير الى ان الولايات المتحدة هي المتهم الاول في تفجير خط الغاز الشمالي ٢ بين روسيا والمانيا ، الا ان المانيا تسير وفق ما تمليه عليها امريكا .
وايمانويل ماكرون يطالب بفتح حوار بين روسيا واوكرانيا ، لكنه يبعث بالسلاح لاوكرانيا ) الانفصال بين الانظمة الحاكمة في الدول الاوربية والقاعدة الشعبية يشير الى ضغط العامل المالي المحرك للاقتصاد الاوربي. وهو ما يعتبر انخراط غير مباشر بالحرب في ساحة اوربا لاجل عيون زيلينسكي .
ابتلاع طعم اوكرانيا من قبل الاتحاد الاوربي ، يفسر تحت بند البحث عن الهوية الاوربية امام روسيا في فوضى تصنعها الولايات المتحدة ، على الرغم من ان امريكا لم تنظر ولن تنظر لاوروبا على انها حليفا موثوقا به بل تابع لسياساتها، ولزيادة التوضيح لنقف عند النتائج المترتبة في حال انخرطت دول الاتحاد الاوربي بشكل مباشر الى جانب زيلنسكي: نلاحظ ان اوربا تناصر شخصا ،كومبارس مسرحي هزلي ، يتناول المواد المخدرة ، ذو اصول يهودية ، يقوم بعملية تحشيد دولية ضد روسيا وهو يرتدي الزي العسكري ، ويدوس ابناء جلدته لاجل مشروع اكبر منه ومن اوكرانيا نفسها ،محاولا حرف العالم بمطالباته الوقحة لدول العالم ، بتزويده بالسلاح واغراق اوروبا في اتون حرب قابلة للانزلاق الى نتائج كارثية .
هل كل هذا لاجل عيون زيلينسكي ؟
او تزويده بعضوية الاتحاد الاوربي ؟
اما جانب الولايات المتحدة ، بالمقارنة مع دول الاتحاد الاوربي ، نراها انها تصرح دوما انها لا تريد الحرب ، لا مع روسيا ولا مع الصين ، لكنها بنفس الوقت تعتبرها العدو اللدود لها وتسعى لتاجيج المناطق المحيطة بهما ، مما يظهر رغبة الولايات المتحدة الملحة (بحرب وكالة عنها) يقودها محيط هاتين الدولتين بدلا عنها لتقفز فوق حقيقة اتحاد الصين وروسيا ضدها في حال الانخراط المباشر وعدم قدرتها على مواجهة القطبين معا ، ولكي لا يقال عنها ( امريكا المهزومة)
تبادر الى التلويح بالقوة ، لذلك فهي تحاول الدفع نحو انخراط اكبر عدد ممكن من الدول ( الحلفاء ) الى جانب اوكرانيا وتشجيعهم على ذلك من خلال الزيارات المتكررة لاوكرانيا .
المحذور منه ، هو جعل ساحة اوروبا مرشحة للعديد من السيناريوهات والتصعيد المتعدد الابعاد ، وما اشكالية استخدام الاسلحة النووية والكيمياوي في اوكرانيا ، الا اسلوب تحاول عن طريقة الولايات المتحدة ان تقحم نفسها كباحث عن العدالة والمطالب بحقوق الانسان في كل اوروبا التي ستنهار اقتصاديا تباعا بعدما كانت وجه العملة الثاني بالنسبة للامريكي،
لتتخلص من اي بوادر لوحدة اوراسيا الاقتصادي .
اتباع هذا الاسلوب من قبل الولايات المتحدة ، يعود الى ان الظروف الدولية اليوم القائمة على نهوض القطب الصيني والروسي والايراني كعوامل مؤثرة في مستقبل العالم ، باعتبارها قلب العالم ، واغنى بقعة جغرافية في العالم اقتصاديا وبشريا ، مما اسقط من يد الامريكي التعويل على الاختلاف الصيني - الروسي- الايراني .
دكتور عامر الربيعي
رئيس مركز الدراسات والبحوث الإستراتيجية العربية الاوربية في باريس