تعتبر العلاقات الروسية الصينية واحدة من أهم الشراكات الدولية وأكثرها تعقيداً في عصرنا الحالي , خصوصاً وأن كلا البلدين يمتلكان القوة والقدرة على مقاومة النهج والسلوك الغربي , الذي اعتمد على عدم التوازن في العلاقات والشراكات وضعف أساساتها وبنيانها , المبني أساساً على الهيمنة الغربية , وضرورة إخضاع الدول التابعة والأدوات , رغم تسميتهم بالشركاء والحلفاء , ناهيك عن غياب المساواة والثقة والتقييم الصحيح للشركاء والشراكة وطبيعة العلاقات وتاريخيتها السياسية والإجتماعية , في وقتٍ تُعتبر المساواة والثقة والإحترام المتبادل أساس العلاقات الروسية الصينية , والتي تبدو في زماننا هذا من الغرائب والأمور التي لا تصدق , وسط شيوع فوضى الأخلاق والقيم والمبادئ , والإهتراء السياسي , الذي فرضه الأمريكيون والغرب عموماً على طبيعة العلاقات الدولية والعالم.
لا يمكن الحديث عن تعزيز وتطويرالشراكة الروسية الصينية , دون التنويه إلى أهدافها السلمية , وسعيها لمد جسور التعاون , والعمل على تحسين الأوضاع الإقتصادية للدول والشعوب , بما يشمل أيضاً تلك التي تشكل البيئة المحيطة بهما ، على الرغم من الأجواء السياسة والرياح العاصفة التي نفخها الغرب منذ بداية القرن الحالي.
لقد أظهرت القمة الروسية – الصينية الأخيرة التي عقدت في موسكو مؤخراً , وحدة وجهات النظر بين قائديّ هاتين القوتين العالميتين حول أهم مشاكل العصر, من خلال المحادثات والنقاشات التي جرت في أجواء اتسمت بالصراحة والثقة والوضوح , والتي تشكل بمجملها عوامل تفتقدها السياسة والساسة الأمريكيين والغربيين عموماً , الأمر الذي يعكس قوة الزعيمين على كبح جماح العواصف التي أثارتها الولايات المتحدة , وتأثيراتها السلبية على العلاقات والمحادثات بين الدول.
من خلال الفهم العميق لمدى تعقيد الأوضاع الدولية , التي تواجه الشراكة الإستراتيجية بين البلدين , كان من المهم للزعيمين مناقشة طرق تعزيز العلاقات الثنائية والسياسية العليا لكلا البلدين , ليس فقط عبر توحيد وجهات النظر, بل عبر مقاربة الفروق والإختلافات الدقيقة في مقاربات الجانبين أيضاً , فالصين بحسب الرئيس شي جين بينغ تواجه "الإستبداد" الدولي , فيما يؤكد الرئيس بوتين أنه وبلاده يواجهان "الهيمنة والنفاق والمراوغة الغربية" , ويبقى من المهم لهما وقف وإنهاء التفرد الأمريكي الذي يمثل "الديكتاتورية" الدولية.
إذ يدرك الشريكان الحليفان أن الأمريكيين لا يريدون التخلي عن مكانة ومزايا هيمنتهم العالمية , ولا يؤمنون بالوسائل السلمية للحفاظ عليها ، ويحاولون دائماً الإستفادة من الحروب طالما تتمتع نخبهم الحاكمة بالقدرة على التحكم في سياسة الولايات المتحدة وحلفائها وقيادتها وتوجيهها , وهذا ما قد يعتقده البعض على أنه يشكل "الإستراتيجية العسكرية" الولايات المتحدة , في حين أنها تخوض حروبها بهدف تدمير أعدائها وإلحاق بهم الأذى والهزيمة , دون الإعتبار بنتائج حروبها السابقة سواء تكللت بالنصر أو بالهزيمة , وتكون خسائرها على حساب حلفائها وأدواتها , فيما تحتفظ لنفسها بمكاسب إنتصاراتها.
وبالقياس , ومن خلال سلوكها بتسعير الحرب في أوكرانيا , رغم قرائتها النصر الروسي فيها , إلاّ أنها ماضية في الرهان على الحرب وإطالة أمدها , وتعقيد ملفاتها , ونقل مستويات المواجهات فيها إلى أبعد من حدود كل من أوكرانيا وروسيا , وبما يهدد العالم بحرب نووية , وتحاول وضع الرئيس بوتين أمام خيارين , سلاماً لا يضمن أمن روسيا ، أو حرباً لا نهاية لها , وسط تجاهلها مصالح حلفائها , وعدم إكتراثها بتدمير دولهم , أو بعدد الضحايا ومن سيقضون في مواجهة روسيا والصين.
من المستغرب أن تراهن الولايات على إضعاف روسيا والصين معاً ، وبأنها قادرة على اختيار اللحظة للدخول إلى ساحة المعركة بكامل قوتها , لإملاء شروطها على الجميع في عالم ما بعد الحرب , ولا بد من تحرك الشارع الأمريكي , والنخب العاقلة , لإعادة صانعي القرار الأمريكي إلى رشدهم , وإجبارهم على التخلي عن الإستراتيجية الحالية , والتفكير الجدي في الحوار والسلام إنطلاقاً من الحرب الأوكرانية – الغربية على موسكو , وقد تكون الصين طرفاً موازياً وجيداً ومفيداً .
في الوقت الذي يبدو فيه الحوار الروسي الأمريكي المباشر معطلاً , وانتقاد الوزيرسيرغي لافروف ، لرفض نظيره الأمريكي أنتوني بلينكين الهدنة الفورية في أوكرانيا , وإعتباره أنها "ستصب في مصلحة روسيا" , واصفاً كلام بلينكن "بالتحليل السطحي" , مؤكداً في الوقت ذاته أن "الغرب لا يريد وقف هذه الحرب ويرى فيها مصالحه الجيوسياسية", في حين لا تزال فيه بكين قادرة على الحوار مع الغرب قبل حدوث الصدام المتوقع , خصوصاً بعدما أثبتت نفسها ونهجها ونجاحها , بمساعدة إيران والسعودية بالتوصل إلى الاتفاق السلمي الواعد بالمزيد من الهدوء والإستقرار الإقليميين والدوليين.
لا بد من متابعة ثمار الجهود الروسية والصينية بهدف الوفاء للعلاقات الثنائية النموذجية بينهما , على الرغم من العقوبات والتهديدات الغربية , وأثر ذلك على الإقتصاد الروسي وبدفع مراكبه نحو الصين واّسيا , في ذات الوقت الذي تتعرض فيه روسيا لضغوط غربية هائلة , الأمر الذي يكشف الطابع الفريد للعلاقات الصينية الروسية.
أخيراً ... لا يزال حديث الوداع بين الزعيمين مع نهاية الزيارة - القمة , يثير قلق واشنطن , ويشجع حلفائها الأوروبيين على التفكير بمصالح بلادهم بعيداً عن الهيمنة الأمريكية , وسيطرة الدولار , على غرار "التمرد الجزئي" الذي أظهره الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون خلال زيارته الصين برفقة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين , وانتهزها فرصةً للظهور والحديث نيابةً عن الأوروبيين , وكزعيم غير مفوض للإتحاد الأوروبي , ودعا أوروبا لإنتهاج سياسة مستقلة عن الولايات المتحدة , وللحد من اعتمادها على واشنطن , وعلى ضرورة ألاّ تكون أوروبا "تابعة" للولايات المتحدة أو للصين حيال ما يجري في تايوان , كذلك تبعته في 14/4/2023 وزيرة الخارجية الألمانية بزيارة الصين , وطالبت بكين بالتأثير على موسكو لوقف الحرب في أوكرانيا , وبإيجاد حلٍ سلمي للنزاع , ولحين تبلور ووضوح الموقف والرد الأمريكي , تبقى الإدارة الأمريكية أمام خيارات إنهاء الصراع في أوكرانيا , والبحث عن حلٍ سلمي , أو استمرار الحرب بلا نهاية , وسط صلابة وقوة أعدائها الروس والصينيون , وتمرد حلفائها الأوروبيين.
م. ميشيل كلاغاصي
17/4/2023