حول هذه القصة حدث صراعا عقائديا في التراث السني، أحكيه لحضراتكم بشئ من الإيجاز
تقول القصة الأصلية: أن الإمام فخر الدين الرازي (544- 605 هـ) إمام أهل الأشاعرة والشافعية في زمانه ، والملقب بإمام المتكلمين وفقيه الأصوليين، كان قد وضع كتابا للرد على الملاحدة أثبت فيه 1000 دليل عقلي على وجود الله، فاحتفل به أهل البلاد بموكب عظيم في نيسابور في خراسان، حتى مرّ هذا الموكب على عجوز فقالت: ما الذي يحدث؟ رد عليها أحد الحضور قائلا: هذا الإمام الرازي وضع 1000 دليل على وجود الله للرد على الملاحدة، فقالت: هذا يعني أنه كان لديه 1000 شك و 1000 مشكلة.
فحسب قول العجوز أن ما فعله الرازي مشكلة في حد ذاته يدل على أنه كان متشككا في وجود الله، ومرت عليه ألف شبهة عبارة عن شكوك ومشكلات في وجود الله، ويكون ردها بمثابة اعتراض لإثبات العكس، أنه ما كان ينبغي للرازي أن يشك أصلا في وجود الخالق..
فوصل هذا القول للإمام الرازي فقال: "اللهم إيمانا كإيمان عجائز نيسابور" والمعنى أن الفلسفة والكلام والفقه لم يسعفوه كي يصل إلى درجة إيمان هذه العجوز، ثم حُكيت هذه القصة في مناقب الرازي داخل كتب الشافعية على أنها أمرا للفقهاء بتبسيط العقيدة وترك الجدل والكلام الذي يُكثِر من الشكوك ولا يتحصل به يقين..أو بمعنى آخر لا تبحثوا عن الله بعقولكم بل بقلوبكم وعواطفكم وميولكم الشخصية، وبرغم أن الرازي لم يُعرف لمنهجه هذا القول بل كان دائم الاستدلال على الله بالعقل مما جعله عرضه للاتهام بالاعتزال لكن هذه القصة منتشرة في كتب الشافعية على أنها منقبة للرازي، لا تطعن في صريح العقل لمنزلته في علم الأصول، ولكن للترغيب في ترك المناقشات الحادة والمتعصبة مع غير المسلمين.
أما القصة المزيفة والتي أحدثت مشكلة وصراعا بين الحنابلة والأشاعرة: تدور حول نسب هذه الكلمة "اللهم إيمانا كإيمان عجائز نيسابور" للإمام أبي المعالي الجويني (419- 478 هـ) إمام الشافعية والأشاعرة في القرن الخامس، والملقب (بإمام الحرمين) فنسب له الذهبي كلمة خطيرة أحدثت مشكلة في الفكر الإسلامي تطعن كليا في معتقد الأشاعرة وتُسقط الجويني من منزلته كعالِم مُجتهد، إلى جاهل وحاطب ليل يعترف قبل الموت بخداعه للناس، وإليكم نص كلام الذهبي منسوبا للجويني:
" "قرأت خمسين ألفا في خمسين ألفاً،... وغصت في الذي نهى عنه أهل الاسلام ، كل ذلك في طلب الحق ، وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد ، والآن فقد رجعت إلى كلمة الحق: عليكم بدين العجائز ، فإن لم يدركني الحق بلطيف بره فأموت على دين العجائز ويختمَ عاقبة أمري عند الرحيل على كلمة الاخلاص "لا إله إلا الله" فالويل لابن الجويني" (سير أعلام النبلاء للذهبي 18/ 471). وقال في مرضه: "اشهدوا علي أني قد رجعت عن كل مقالة تخالف السنة وأني أموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور" (نفس المصدر 18/ 474)
لكن الشافعية قالوا أن هذه الرواية من وضع المتعصب الحنبلي "الحسن ابن العباس الرستمي" (توفى 560 هـ) والمشهور "بفقيه أصبهان" أما نقل الذهبي عنه لأن الذهبي عند بعض الأشاعرة كان (حاطب ليل) ينقل من الحنابلة دون تحقيق أو شك، ولأن الذهبي كان يعيش في الشام في عز سطوة ابن تيمية كان ينقل عن أتباعه بتوسع وخصوصا أحكامهم التكفيرية والمجحفة في كتابه (سير أعلام النبلاء) ومن ذلك أن الذهبي زعم أن الرازي عاد وتاب قبل موته، وأبي المعالي الجويني وغيرهم من كبار الأشاعرة، وهذه طريقة الحنابلة في الانتقام وملخصها "عندما يعجزون عن الرد على خصومهم يكذبون بادعاء توبتهم قبل موتهم)..ولا زال هذا السلوك مشهورا عند الحنابلة، ويظهر بجلاء عند التيار الوهابي السلفي اليوم..
يقول الشيخ حسن السقاف " الرُستمي هذا عدو للأشاعرة فلا غرابة في أن يروي هذه الحكايات المكذوبة عن مثل إمام الحرمين، ذكر الذهبي في ترجمته في (السير) (20 / 435) عن أبي موسى المديني أنه قال: (وكان من الشداد في السنة) أي في التشبيه. ونقل الإمام المحدث الكوثري عليه الرحمة والرضوان في تعليقه على ذيول الحفاظ أن هذا الرستمي قال بكل وقاحة: الأشعرية ضلال زنادقة إخوان من عبد العزى مع اللات بربهم كفروا جهرا" (صحيح شرح العقيدة الطحاوية 5/2)
ومن كلام السقاف فالرُستمي هو الذي كذب على الجويني لخلاف عقائدي..ثم صدقه الذهبي بحُسن نية ، ومن خلال موسوعته "سير أعلام النبلاء" انتشر هذا القول الكاذب على الجويني حتى صار حجة عند الحنابلة والوهابية في تكفير والهجوم على الأشاعرة، والملفت للنظر أن الذهبي طعن في عقيدة الرستمي أيضا وفقا لكلام السقاف، رغم اعتماده على قوله في (توبة الجويني)..ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهذه من تناقضات وسقطات الذهبي التي لم ينتبه إليها البعض، وتحاشى السقاف عن ذكرها صراحة لكنه ذكرها إشارة كي لا يظهر طاعنا للذهبي أو جارحا فيه..
قال السقاف " الذهبي كان يسمع خرافات من الحنابلة فيعتقدها حقا ويودعها تصانيفه.!! وقد شهد على ذلك أيضا محققا الجزء الحادي والعشرين من سير أعلام النبلاء حيث قالا هناك في الحاشية ما نصه: [تصرف الذهبي تصرفا كبيرا بعبارات ابن الأبار وهذه عادته رحمه الله...] فتأملوا!!" (نفس المصدر)
وقال السقاف أيضا " أن الذهبي حذف من فقرة نقلها، من العقيدة النظامية لإمام الحرمين عبارة لا توافقه" (نفس المصدر) ثم نقل عن الشيخ عبدالوهاب السبكي – وهو من شيوخ الأشاعرة - ما يؤيد ذلك " ومن المسالك الملتوية أيضا التي سلكها المجسمة في نشر الإشاعات المكذوبة المرجفة لنصرة مذهبهم ومحاولة تمكينه عند العامة والدهماء ولو بالأكاذيب وباطل القول!! أنهم حذفوا كلمات من عبارات نقلوها من كتاب (الرسالة النظامية) لإمام الحرمين لا توافق مبادءهم ليوهموا من يثق بكلامهم ونقولاتهم أنه رجع في آخر حياته إلى مذهبهم وأعلن أنه على مذهب السلف الذي يعنونه هم ويقصدونه والذي هو في الحقيقة مخالف تماما لما عليه سلف الأمة، وكل ذلك مما لا ينطلي على الصيرفي النقاد بإذن الله تعالى" (طبقات الشافعية 5/ 188)
ومُلخص هذه العاركة:
أن الشيخ الذهبي نسب مقولة مكذوبة على الجويني توحي بعداءه للإسلام ثم توبته آخر حياته، فانتفض الأشاعرة وتتبعوا مصدر المقولة فوجدوها منسوبة لشيخ حنبلي متهم بالتجسيم هو "الرستمي" الذي وصفه كُلا من (السقاف والكوثري) أنه شيخا تكفيريا عدوا للأشاعرة فوضع هذا القول انتقاما من الجويني لعجزة عن رد حججه القوية في التنزيه، ولأن الذهبي كان حاطب ليل سَجّل هذه المقولات الطاعنة في الجويني دون وعي، ثم ولكي تستقيم شهادته ولا يشوبها الاضطراب حذف من كلام الجويني الأصلي كي يخرج هذا الرجل كافرا يتوب آخر حياته..!!
الحكمة من سرد هذه القصة هي الوقوف على سر من أسرار الصراعات الحالية بين المسلمين وتكفيرهم لبعضهم، أنها قائمة على أكاذيب وخصومات شخصية وعقائدية بين أئمة السلف والمذاهب الكبار، ولأنهم مقلدين لم يُعِمِلوا عقولهم ولا يُحسنوا التفكير انساقوا وراء تلك الأكاذيب والأوهام دون وعي، ودافعوا بجهالة عن أخطاء وجرائم المتقدمين..