حوالي ساعة كاملة تكلم خلالها رئيس الرهبانية المارونية ورئيس جامعة الروح القدس البروفيسور الأب جورج حبيقة في برنامج بيروت اليوم على ال MTV في محاولة الدفاع عن الامتيازات الطائفية عبر انتقائية واضحة في قبول ما يدعم هذه الامتيازات في دستور الطائف، ونسف ما لا يعجبه من هذا الدستور سائرا على خطى البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير في مقولته عن رفض التخلي عن الطائفية في النصوص قبل تطهير النفوس منها...
ب
أما الحجة الدائمة عن أن التعصب الطائفي متأصل في نفوس البشر ويجب بالتالي احترام هذا التعصب بدل وضع قوانين وضعية للقضاء على هذه الآفة تماما كما يجري الأمر مع آفات البشر الأخرى في السرقة أو القتل أو الزنا أو الكراهية للآخر حيث يندرج بالفعل التعصب الطائفي او غير ذلك...
"النفس أمارة بالسوء"؛ لكن الأب البروفيسور يحاول حماية هذا السوء عبر الاختباء وراء الغنى الذي تمثله التعددية في خلط عجيب غريب بين الغنى الناتج عن التعددية الدينية والحضارية في مجتمعاتنا، والتعصب الذي يظهر جلياً في الوقوف حتى ضد أحد رموز المارونية السياسية سليمان فرنجية لمجرد أنه أكثر انفتاحا، وأكثر تحررا من عقد التعصب التي تأسر قلوب القوات والتيار والكتائب وحتى البطريركية المارونية...
ساعة كاملة عاد فيها البروفيسور إلى التاريخ حين كان الموارنة أكثرية في البلد وكان زعماؤهم يطالبون بإلغاء الطائفية السياسية بينما يرفض هذا الإلغاء زعماء مسلمين من السُنّة والشيعة والدروز في ذلك الزمن، ليخلص في النهاية إلى أن طلب إلغاء الطائفية السياسية هو في حد ذاته مطلب طائفي، ويبين أن البطريرك صفير والزعماء الموارنة حين قبلوا بدستور الطائف، إنما قبلوا به على نية نسف ما لا يعجبهم من هذا الإتفاق - الدستور لاحقاً...
ساعة كاملة، سخّر خلالها الأب جورج حبيقة عدة فلاسفة وعدة مفكرين لكي يصل إلى السؤال الكبير عن النظام الذي يريده للبنان دون أن يخرج بتصور واضح مكتفيا إما بالتلميح إلى مداورة في مناصب السلطة العليا أو التعويل على أخلاق نعرف جميعا أن كل الطبقة الحاكمة، بكل الرموز المذهبية فيها دون استثناء، لا تملك من هذه الأخلاق ولا حتى ذرة...
لو كانت مثالية الأب حبيقة تكفل لنا نُخبا لا تصاب بالفساد، لكانت مثالية غاندي في الهند هي السائدة اليوم وليس حكم مودي الهندوسي المتعصب الذي يكره كل الأقليات الأخرى؛ ومودي هذا هو من نقل الهند من التعاطف وتأييد فلسطين والعرب إلى الصداقة مع اسرائيل والتماهي مع السياسة العنصرية الصهيونية...
صحيح أن إلغاء الطائفية السياسية أو اخواتها من النظم المدنية أو العلمانية إذا جرى بشكل عشوائي، قد يهدد بذوبان الأقليات وخسارة الغنى من التعددية الدينية والثقافية، لكن الاستمرار في هذا النظام البغيض القائم على التعصب وعلى استئثار زعماء الطوائف على حصص في جبنة السلطة يشكل خطراً أكبر على الوطن وسوف يؤدي عبر الحروب التي تتوالى إلى تقسيم هذا الوطن على صغر مساحته إلى عدة اوطان سوف تنتهي في النهاية لقمة سائغة في احلاف أكبر منها...
ألا يميل المسيحيون على الطقس الغربي في لبنان في العواطف إلى الغرب في الحرب الأطلسية القذرة بين روسيا وأوكرانيا؟...
ألا تميل أفئدة معظم المسيحيين على الطقس الشرقي نحو روسيا؟...
أما المسلمون فهم بالفطرة يعادون الإمبريالية الأميركية التي تقف خلف كل مصائب الأمة عبر دعم الكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين، والعامل على مصادرة أية إمكانية تطور لهذا العالم العربي الكبير نحو الحرية والعدالة الاجتماعية ودولة القانون...
لبناء نظام حكم يلائم بلدا ما يجب وضع قوانين ودستور وليس التمني أن يأتي رجل شريف إلى الحكم والدعاء لله أن لا يصاب لا هو، ولا جماعته بلوثة السلطة، أو مغانم أهل هذه السلطة، كما حصل مع التجربة الشهابية...
في مونولوج متقطع حول تركيبة السلطة في لبنان خرج الأب حبيقة يرفض الدولة المدنية بحجة أنها شعار لمصر لا يناسب لبنان!!!...
في مصر رفع الامام محمد عبدو شعار الدولة المدنية رفضا لحكم رجال الدين... ورفع الإخوان المسلمون هذا الشعار رفضا لحكم العسكر...
في لبنان الوضع مختلف، يقول الأب حبيقة...
هل الوضع في لبنان مختلف فعلاً؟
ألا يتدخل البطاركة ورجال الإفتاء في كل شاردة وواردة في شؤون تسيير أمور الناس عبر دعم زعماء التعصب ونهب مقدرات الدولة؟
أما العسكر...
يكفي أن نصف عدد رؤساء الجمهورية في لبنان هم من العسكر الى درجة أن كل قائد جيش يحلم أن يتقاعد على كرسي الرئاسة ليس لخدمة الناس، بل طمعا في تكوين زبائنية تابعة له كما مع بقية الأحزاب الطائفية والمراكز الدينية...
بعدها عرج البروفيسور إلى رفض فصل الدين عن الدولة لأن رجال الدين وفقاً لمنطقه لا يتدخلون في شؤون الحكم!!!...
نكتة سمجة فعلاً عندما نرى البطريرك الماروني ورجال دور الإفتاء يعبثون بهذا الوطن ويعملون على رسم خطوط حمر لحماية الفاسدين في البلد وغيرها من أمور الدنيا أقل ما يقال فيها انها ضد كل ما قد يريده الله من ممثليه على هذه الأرض...
لا شك أن الأب حبيقة متكلم بارع في التقاط من كل واد عصا بشكل مبهر لكي يتركنا في النهاية فريسة لنظام حكم هو الاسوأ في التاريخ بدليل أنه يؤدي إلى نشوب حروب كل بضعة عقود من السنين، ويعمل على أن نعيش في أزمات متتالية لا تنتهي...
يرفض البروفيسور حبيقة الديمقراطية العددية وهو محق في هذا لأن الديمقراطية العددية في مجتمع من الحمير لا يمكن أن تولي على رأس هذا المجتمع إلا حمارا...
لكن الأب حبيقة الذي يرفض دكتاتورية الأكثرية لا يقول لنا كيف يمكن التخلص من ديكتاتورية الأقلية التي مارستها كل الأقليات طيلة الوقت من عمر هذا الكيان، منذ التأسيس إلى اليوم...
لا شك أن النقاش مع البروفيسور حبيقة يمكن أن يصل إلى قواسم مشتركة إذا أعلن فعلاً أنه ملتزم ببناء نظام جديد أكثر عدالة من النظام القائم...
من المؤكد اليوم أن الديمقراطية المعاصرة لم تعد حكم الأغلبية للأقلية...
لقد انتقل مفهوم الديمقراطية من منطق الغلبة إلى منطق احترام الرأي الآخر...
على الاقل، دخلنا في هذه الديمقراطية النسبية في النصف الأخير من القرن الماضي...
انطلق الأب حبيقة من انتقاد لاذع لكبار القادة المسيحيين الذين على مر التاريخ رفضوا الطائفية السياسية من أمثال النائب ايام الانتداب جورج زوين، وامتدح كثيرا قادة مسلمين رفضوا التخلي عن الطائفية السياسية منطلقاً من أن هذه الطائفية السياسية هي افضل صيغة لمنع سيطرة الأغلبية على الأقلية... هذا برغم أن الشعارات التي رفعها النائب جورج زوين يومها والتي يرفعها العلمانيون هذه الأيام هي افضل الطرق للوصول إلى نظام أكثر عدالة مع الحفاظ فعلاً على الغنى الذي تمثله التعددية...
لا يفرق الأب حبيقة بين الطائفة التي هي غنى ثقافي وتعبير عن اتجاه فكري في الأديان، وبين الطائفية السياسية التي كرست دوما وأبدا، طغيان الإقطاع السياسي التقليدي من جهة، وطغيان اكبر واسوأ بأضعاف مضاعفة من رجال الإقطاع السياسي الجديد من جهة أخرى؛ كل هذا، مع طغيان رجال الدين على مرافق الدولة وتقاسم جبنة السلطة فيما بينهم جميعاً...
رغم الموافقة الضمنية لكاتب هذه الأسطر على أن عهد الرئيس فؤاد شهاب كان من افضل عهود الحكم في لبنان، إلا أنه حتى في هذا العهد الشهابي ظل الرئيس فؤاد شهاب يكرر ويحذر من أهل السياسة، ويصفهم بأكلة الجبنة... وفي لبنان السياسة بيد رجال الدنيا والدين...
حتى فؤاد شهاب لم يستطع الدفاع كثيرا أمام هجوم زعماء من يركبون موجات التعصب الطائفي البغيض لكي يبنوا عليها أمجادا تقضي حتما على مجد الوطن...
بالمناسبة، يتحدث البروفيسور عن الزواج المدني وعدم رفضه له ويرمي بهذا الرفض إلى المسلمين ربما لأن البروفيسور لا يعرف أن الزواج عند الشيعة على الأقل، هو عقد كما كل العقود بين طرفين، ويستطيع أن يتضمن كل قوانين الزواج المدني... ببساطة لأن العقد هو شريعة المتعاقدين...
لذلك وجبت الإشارة إلى أن رفض السلطات الدينية للزواج المدني هو سياسة من رعاة نظام الطائفية السياسية البغيض للمحافظة على نظام الزبائنية القائم اليوم في لبنان...
رغم قفز البروفيسور قفزات كثيرة في أكثر من مجال خلال ساعة كاملة حيث أعطى صورة سلبية في الدفاع عن النظام القائم؛ إلا أن طرح الأب حبيقة لمسألة وجوب دمج نظرية الدولة التوافقية مع التعددية الدينية والثقافية يحتاج فقط الى قوانين تؤمن العدالة الاجتماعية والمساواة بين أبناء الوطن الواحد في كل الحقوق كما في كل الواجبات...
لقد استطاعت أوروبا تجاوز الحروب الدامية التي قضت على ثلث سكان القارة، ودمرت مقدرات أوروبا في حرب المئة عام عبر اتفاقيات ويستفاليا...
هل من الصعب إيجاد صيغة مركبة من التوافقية في المستوى الأعلى في السلطة مع رفض عقلية التفوق التي تسيطر على عقول بعض رموز المارونية السياسية أو عقلية الاستئثار بالوظائف كبيرها وصغيرها، حتى وصل الأمر مع جبران باسيل إلى رفض توقيع مراسيم تعيين حراس أحراش، أو قبول المجندين في الجيش تحت مسمى المناصفة...
لا المناصفة ولا المثالثة ولا اي صيغة تقاسم يمكن أن تشكل حلا لقيام دولة بالمعنى الفعلي للكلمة...
لذلك، يتوجب فتح كل المراكز وكل الوظائف على كل الناس وفقا لمعايير الكفاءة دون النظر إلى الهوية الطائفية او عقيدة المتقدم لهذه المراكز أو جنس أو لون او اي شيء من صفات هذا المتقدم خارج نطاق الكفاءة لهذا الموقع أو ذاك...
ربما نتفق مع الأب البروفيسور على أن دستور الطائف ليس مقدساً... وان أي دستور يحتاج دوما إلى تعديلات كل بضعة سنوات لمواكبة تطور المجتمعات...
لكن يجب البدء من موقع ما...
من المؤكد أن هذا الموقع لا صلة له ببقاء نظام الامتيازات القائم الذي يجعل من كل لبناني عنزة معلقة بكرعوب زعماء الطوائف مدنيين كانوا أم رجال دين...
العلاقة الشرعية الوحيدة يجب أن تكون مع الوطن الذي عليه أن يبدأ بوضع المتخلفة عقليا ماريا معلوف أو زميلها في التخلف الفرد رياشي في السجون لمخالفتهم أبسط شروط الانتماء الوطني وعملهم ضد مصلحة لبنان على الأقل كما رآها أحد أكبر منظري قيام الكيان اللبناني، ميشال شيحا...
حليم خاتون