كتب علي خيرالله شريف:
مقالات
كتب علي خيرالله شريف: "إنّها لَيْسَتْ عنزةً، يا أصحابَ البَطِّ والغِربان".
18 آب 2023 , 22:17 م


لهذا المَثَلِ قصتان،الأولى تقول: إنّ صدِيقَيْنِ تجادَلا حول شيءٍ أسوَدِ اللونِ رأَياهُ منَ الأسفل، في ذُؤابَةِ شَجَرةٍ عالية، فقال الأول، وهو أكثرُهُما عِناداً: إنّها عنزة.

وقال الثاني: إنها غراب.

وكيف للعنزةِ أنْ تصعَدَ إلى هذا العُلوِّ الشاهِق؟

ولما طارَ الغُرابُ، قال الأول: "مع ذلك،هي عنزةٌ ولوْ طارَت"!

أما القصةُ الثانيةُ للمثل ِ، فتُحكى عن رجلٍ كانَ يَقْتَنِي بطةً اِصْطَحَبَها إلى السوقِ، وراحَ يُنادي: "عنزة للبيع"!!

ولمّا عجَزَ الناسُ عن إقناعِهِ بِأنهّا بطة، أمسك أحدُ المارّةِ بهذِهِ الأخيرةِ، وأطلقَها لتطيرَ ويُبّرْهِنَ لهُ خطأَه.

لكنَّ الرجلَ أجابَهُ: مع ذلك هي عنزة ولوطارت"!

والبعض في لبنان يتصرفون هكذا أمام الحقائق، على قاعدة: "عنزة ولو طارت"؛ إذ هم لا يريدون أن يقتنعوا مثلاً أن السلاح الذي كان في الشاحنة على "كوع الكحالة"، لم يكن يوماً للداخل، بل هو نفسُهُ السلاحُ الذي جعل رجالَ الدين ِ والكهنةَ والسياسيين يجلسون على كراسيِّهِمُ المُخمَلية، ويطلقون عِظاتِهِمُ الناريَّةَ من مذابِحهم الماورديّة، ومن منابِرِهِم التقية، بكلِّ أمنٍ وأمان وألمَعِيَّة.

وأنّهُ هو نفسُه السلاحُ الذي جعل لِلُبنانَ كرامةً وطنية، وسياجاً حصيناً، وقوةً لا تُقهَر.

فكيف.بربّكم السبيلُ إلى إقناع ِ هؤلاءِ بأنَّ من حَرَّرَ وَحَمَى، لَهُ أولويةُ البقاءِ والحمايةِ من الضَّياع؛ بل وله وحدَهُ الأفضليةُ أنْ يُهدَى إليهِ مَجْدُ لبنان، إذ لولاه ما كان بَقِيَ للبنانَ مَجْدٌ،ولا وجود، بل إنَّ شرطَ بقاءِ لبنانَ يرتبطُ بِحِفْظِهِ، بِرمْشِ العين..

كيف السبيلُ لإقناعهم بأن، مَن يسعى إلى إشعال ِالحربِ الأهليةِ لا يمكنُ أن يكونَ إلّا عدواً للوطن؟ حتى ولو تجلبب بأعلامِ لبنان، ولو حفظَ كلَّ الأغاني الوطنية،وأجاد كلَّ الدّبكاتِ الفولكلورية، لأنه يعيشُ سجينَ عقليةٍ فئويةٍ، وعنصرية يتشبثُ بها، حتى ولو أحرقَ نفسَهُ وأحرق الوطن بما فيه.

هو يتشبثُ بالمذهبيةِ والطبقيةِ، في زمن التغنِّي بالمساواةِ والتبجُّحِ بالديمقراطية

بعض أصحاب الصولجاناتِ الدينيةِ، لايُقيمونَ وزناً لغيرِهم من اللبنانيينَ، حتى ولو كانوا يحملون تلك الجنسية"المهضومةَ" قَبْلَهُم بألفِ سنةٍ ضوئية، ويعتبرونَ أن الرجالَ الذينَ بذَلوا الدماءَ من أجل ِالوطنِ جنوباً وشرقاً، وبحراً ونفطاً،لم يكونوا سوى خَدَمٍ عندَهُم،وقد حان الوقتُ لِيَسْتَغنوا عن خِدماتهم، وهم يريدونَ توجيهَ كتابِ الصَّرْفِ مِنَ الخِدْمَةِ إليهم، تماما كما يفعلونَ مع المعلمينَ في مدارسِهِمُ الرّعَوِيَّةِ قبلَ الخامسِ من تموزَ من كلِّ عام.

لقد غاب عن بال هؤلاء الكهنةِ أنّهم ليسوا سرَّ الكون، وليسوا الآمرَ الناهيَ في لبنان.

وغاب عن بالهم أيضاً، أنَّ لهم شركاءَ في هذا الوطن، ولا يُمكِنُ أن يتقرَّرَ مصيرُهُ إلَّا بمشاركةِ هؤلاء الشركاء،ولايَهُمُّ هؤلاءِ الكهنةُ عظيمُ تواضُعِ شركائِهم، ورُبَّما هُم يكرهون هذا التواضعَ فيهم، لأنهم يعتبرونه من أسرارِ قُوَّتهم.

وهل هناك أعظمُ من مكارمِ أخلاقِهِم، إذْ يرفُضونَ أن يَسْتَغِلُّوا انتصاراتهم على العدو لكي يستأثِروا بأيِّ قرارٍ على صعيدِ مستقبل ِ الوطن؟

هم لا يريدون أن يستأثروا، رغم أن البعض كانوا مُتَّكِئينَ على الأرائك ينظرون إليهم، وهم يبذلون الدِّماء والتضحيات.

بالمقابل جعل هؤلاء الكهنةُ من زيارةِ كِيانِ العدوِّ رِسالةً كهنوتيةً أصرَّوا على تَأُدِيَتِها رغم معارضةِ رئيسِ الجمهورية، و رئيسِ الحكومةِ، والقياداتِ الشريكةِ في الوطن، وتَفَرَّدوا برأيِهِم لأنَّهم يعتبرونَ أنفسَهُم الآمِر الناهيَ الذي يستمِدُّ سلطتَهُ مِنَ الله، ولا يحِقُّ لأحدٍ معارضَتَهُم.

ضربوا كل الاعتراضاتِ بعرضِ الحائط، وراحوا "يطبطبون" على أكتاف من تآمرَ على الوطن وأهانَ كرامتَهُ وتعاملَ معَ العدُوِّ لِقتلِ ِ أهلِه.

كيف السبيلُ إلى إقناع هؤلاء أن الدولةَ هي مطلبُنا الأولُ والأخير، وأنَّ الجيشَ تاجُ رؤوسنا، وأنَّ حُلمَنا هو أن يُصبُحَ في لبنان دولةٌ عادلةٌ وجيشٌ قويٌّ، حُرٌّ طليق، غير مُقَيَّدٍ بأغلال ِ دولةٍ عُظْمى متغطرسة متسلّطة، أو سفارةٍ وَقِحَةٍ، أو أيِّ كِيانٍ أو أميرٍ أو ملكٍ أو وليِّ عهد.

عندها فقط، لن يتجرَّأَ العدوُّ على غزوِنا واحتلالِ أرضِنا، فتكتملَ سيادتُنا ويُصانَ استقلالُنا، ونحتفظَ بِكُلِّ ما أُوتِينا من قوةٍ نُرهِبُ بِها عدوَّنا؟

كيف السبيلُ إلى تذكيرِ هؤلاءِ، من كُلِّ المواقعِ والمقامات، بالمشهدِ الذي كان فيهِ العدوُّ "يَسيدُ ويَميد"ويُخَرِّبُ ويُدَمِّرُ ويقتل، في الجنوب ِوفي كلِّ لبنان ولا يُسمَحَ للجيش أن يُواجهَه، ولا يُسمَحَ له بالتَسَلُّحِ لتلك المواجهة؟!

عندما يتشبّثُ الكائنُ البشريُّ بِرَأْيِه، ولو كان على خطإ، ويُنَحِّي جانباً أيَّ حوارٍ مَنْطِقِيٍّ وموضوعيٍّ وعقلانيّ يُدعى إليه، ويتمترسُ بذهنيتِهِ الخشبِيَّة، يُصبِحُ عَبَثِيّاً، وتَنعَدِمُ السُبُلُ لإقناعِهِ بالحقائق، ويَرْفُضُ الاعترافَ بالواقعِ وبالآخر،ويُنكِرُحتى نورَ الشمسِ الساطِع ِفي أرجاءِ الكون؛ عِندَها ينطبِقُ عليهِ المَثَلُ الدَّارِجُ آنِفُ الذِّكر: "عنزة ولو طارت".

لا، يا أصحابَ ألقابِ المعالِي والسعادةِ والنِّيافةِ والغِبطَة،وكُلِّ ألقاب التفخيم والتَمَلُّقِ والتَزَلُّف.

المقاومةُ ليْسَتْ دولةً ضِمْنَ الدولة، ولم تطرحْ نفسَها يوماً محلَّ الدولة،فقط هي سارَعَتْ إلى دَرْءِ خَطَرِ العدوِّ،عندما تقاعسَتِ الدولةُ، بل تواطأتْ، وأهملتْ، واسْتَهْتَرَتْ بحياة مواطنيها... فَلِأنَّ الدولةَ تقاعَسَتْ اضطُرَّتْ فِئَةٌ مِنَ اللبنانيينَ أنْ تُدافِعَ عن نفسِها دونَ أنْ تَمَسَّ بِهَيبةِ الدولة، ولمّا انتصرتْ عَفَتْ وسامَحَتْ، وتَرَفَّعَتْ عن ِ الِانْتِقام، ثُمَّ سلَّمَتْ زِمامَ الأمُورِ للدولة، ولو كانَ غيرُها محلَّها لَقَلَبوا عالِيَها سافِلَها، ولَتَكبَّروا وتعجْرَفوا مِلءَ الكون.

إن الضوضاءَ والبروباغندا التي يُثيرُها صِبْيَةُ الشُّذوذِ الجنسي وروّاد البَطَرِ السياسِيِّ والْخُبْثِ الإعلامِيِّ، والعَنْجَهِيَّةِ الكَهْنوتِيّة، بهدَفِ قَطْعِ خطوطِ إمدادِ المقاومة، خدمةً مجانيةً للأعداء الذين يحاصِرُونَنا ويحاصرونها، وهي (البروباغندا) لن تَستطيعَ تحقيقَ ما يصبُونَ إليهِ، لأنَّ مُثِيرِيها أوهَنُ من خيوطِ العنكبوت.

وهي ضوضاءُ تَصُبُّ في السَّعيِ لِإزالةِ لبنانَ منَ الوجود، طِبقاً لِخِطَطِ العدُوّ، وطِبقاً لِخططِ النّيوليبرالية التي لا يريدونَ الِاقْتِناعَ بِأنَّها تُريدُ سَحْقَنا، وتفتيتَ بَلَدِنا، والتهامَ مُقَدِّراتِنا.

هم لا يريدونَ أنْ يقتنعوا بشيء، وكلُّ ما يثرثرونَ بِهِ من شعاراتِ السيادَةِ والحرِّيَّةِ والِاسْتِقْلال، والافتراءاتِ والجعجعاتِ ودَسِّ الفِتَن، علاوَةً على أنَّهُ مقبوضُ الثّمَنِ مِنَ السفارات، فهو ليس سوى لقلقةِ لِسان ٍ، واجترارِ شعاراتٍ كاذبةٍ، خبيثةِ المنشأِ والمقصد، وخبيثةِ الوسيلةِ التي تبُثُّها وتنشرُها بينَ الناس.

لقدكَلَّتْ ألسِتُناوجفَّتْ أقلامُنا، في توضيح الواضحاتِ لهم، ولكنهم أبَوْا إلَّا أنْ يَعْتَنِقُوا عقيدة: "عنزة ولو طارت"، مهما كان الثمن، وحتى لو ضاع الوطن.

*الجمعة ١٨ آب٢٠٢٣*