من أشهر الرهانات الفلسفية، يأتي رهان باسكال، وهو نسبة إلى الفيلسوف وعالم الرياضيات الفرنسي في القرن السابع عشر "بليز باسكال". وخلاصة الرهان وفقاً لما يقوله باسكال، هو أن الإنسان لا يستطيع أن يعرف وجود الله بالعقل وحده، لهذا فإن الحكمة تتطلب أن تعيش حياتك على أساس فرضية وجود الله لأن مثل تلك الحياة هي حياة رابحة لا يمكن أن تخسر فيها شيء. فإذا عشنا على أساس أن الله موجود، وهو موجود بالفعل، نكون قد ربحنا السماء، وإذا لم يكن موجوداً، لن نكون قد خسرنا أي شيء. ولكن من جهة أخرى، إذا عشنا حياتنا على أساس أن الله غير موجود، بينما هو موجود بالفعل، نكون قد ربحنا الجحيم والعقاب وخسرنا السماء والنعيم.
والشاهد هنا ليس مناقشة الرهان والذي يتجاهل الأدلة العقلية لوجود الله، ولسنا في مجال خوض جدال مع هذه النظرية، ولكن الشاهد هو وجود ملامح لهذا الرهان في كثير من الممارسات السياسية وخاصة بعض المستجدات التي طرأت على النظام العالمي وتطورات الصراع الدولي.
ومن أبرز هذه الشواهد، تأتي ممارسات بعض الدول وخاصة الخليجية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، والتي يصف بعض الكتاب الغربيين سياستها في الفترة الأخيرة بمصطلح "التحوط"، وفقًا لمحاولة موازنة سياستها مع امريكا من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى.
إلا أن الممارسات الإقليمية لدول الخليج وخاصة السعودية، لا ينطبق عليها هذا المصطلح، ولا يصح أن تندرج تحت بند التحوط، ولكن التوصيف الأدق الذي نراه لحالة السعودية هو الترجمة السياسية للرهان "باسكال".
فالممارسات السعودية التي تتقارب دبلوماسيا مع ايران وتوحي بالتقارب مع سوريا دون إجراءات ملموسة تتعلق بفك التناقضات العملية مع محو.ر المقا.ومة، وتعيين سفير لدى السلطة الفلسطينية مع تصعيد وتيرة التنسيق مع الإدارة الأمريكية بخصوص التطبيع مع العدو الإسرائيلي، ووصول التنسيق لمستويات متقدمة وبلورة صفقة متكاملة تتعلق بتطبيع كامل مقابل حزمة مطالب سعودية تتعلق بالتسليح ومشروع نووي سعودي والاعتراف بشرعية بن سلمان ودعمه، هي ممارسات لا تشي بالتفاتة استراتيجية أو تحول نوعي، وإنما هي رهانات على الوقت وعلى تطورات الصراع دون تورط.
فالرهان السعودي إذا ما قيس برهان باسكال، فإنه يبدو كما يلي: لا يمكن توقع نشوب حرب كبرى بين محو.ر المقا.ومة والعدو الإسرائيلي من عدمه، ولهذا فإن الحكمة تقتضي أن تعيش وفقا لنشوب هذه المعركة وتتواصل مع جميع الأطراف، فإذا اندلعت المعركة فهي ليست طرفا فيها، وإذا لم تندلع فهي على تواصل وعلاقات دبلوماسية ومستويات من التنسيق والتعاون وفقا للمصلحة السعودية.
والفارق بين التحوط بين القوى الكبرى مثل امريكا وروسيا والصين وبين الرهان الإقليمي، هو أن النظام العالمي في طور التحول لنظام متعدد الأقطاب وهو ما يسمح بهذا الهامش من تعدد العلاقات، بينما الحرب الإقليمية، هي حرب وجودية وفقًا لحقيقة الصراع الوجودي بين "اسرائيل" وشعوب المنطقة، وبالتالي فإن هامش تعدد العلاقات يمكن أن يتواجد في حالة الهدنة والتي لا ينطبق عليها مفهوم السلم، بينما الحرب عندما تندلع، فهي لا تقبل القسمة ولا تسمح طبيعتها بالتحوط.
يمكن فهم الخطوة السعودية بتعيين سفير لدى السلطة على أنه دعم للسلطة في مواجهة المقا.ومة، وهو مشروع أمريكي - إسرائيلي لا يجد بديلًا للتعامل الإجباري مع الفلسطينيين إلا عبر السلطة باعتبارها الطرف الوحيد الذي يمكن التنسيق معه، وبالتالي لا تتناقض السعودية مع أمريكا وفي ذات الوقت توحي بأنها تدعم القضية كمقدمة لإعلان التطبيع، بحيث يصعب الإعلان عنه وهناك قطيعة دبلوماسية مع كل الأطراف الفلسطينية، وبالتالي اختارت السعودية السلطة.
ولكن ما لا يمكن فهمه هو اتباع السعودية سياسة "صفر مشاكل" دون حل لقضية اليمن ووجودها كقنبلة موقوتة يمكن انفجارها وإفشال سياسة السعودية التي تريد مناخًا مستقرًا يخدم مشروعاتها الاستثمارية المنضوية تحت رؤية 2030 والتي تشترط سلامًا لجذب الاستثمار.
ويبدو أن السعودية لا تزال تخطئ التقدير بشأن اليمن، حيث تعتبر "انصا.ر الله" تابعة لايران، وبالتالي فإن التهدئة مع إيران تكفل استمرار الهدنة والهدوء في اليمن، وهو رهان خاطئ لأن ايران لا تفرض حربًا ولا تهدئة على أصدقائها، واليمنيون لهم قرارهم المستقل وصبرهم على الحصار والتلاعب والخداع لن يطول.
من حق كل دولة أن تتخذ السياسة التي تناسب منظومتها الأخلاقية وأمنها ومصالحها، ولكن ليس من حقها مماسة الازدواجية وخداع الشعوب، وعلى كل دولة حسم رهاناتها وخياراتها بدقة لأن المعارك الصفرية والوجودية لا تقبل الرهانات المحتاطة مثل الرهان باسكال
ايهاب شوقي