كتب الأستاذ إيهاب شوقي:
مع صمود المـقـاومة والتمسك بالحق التاريخي، تظل الحقوق حاضرة والحقائق جلية مهما حاول الكيان طمسها تاريخيًّا، وهو ما اتضح مؤخرًا من عنوان أبرز صحيفة قبرصية دقت جرس الإنذار حول التغلغل الإسرائيلي في قبرص، وكان العنوان لافتًا ومذكرًا بالحق الفلسـطيني،حيث جاء على النحو الآتي:
" كأنها أرض موعودة أخرى… لماذا يشتري اليهود الأراضي في قبرص؟".
وما يجعلنا نقول: إن المـقـاومة هي التي أجبرت أكبر صحيفة في بلد من أكبر أصدقاء الكيان وحلفائه على التذكير بالحق الفلسـ.ـطيني، هو أن ضربات المـقـاومة منذ طـ.ـوفان الأقصى بجبهاتها كافة، هي التي دفعت الصـ.ـهاينة للهروب إلى قبرص، وهو ما تكثف مؤخرًا تحت وابل الصـ.ـو اريخ الإيرانية، كماأن هذه الضربات،والمستقبل الغامض للكيان أدَّيا إلى انكباب الصـ.ـهاينة على شراء الأراضي والعقارات، وهو ما يوحي بأنه إعداد لوطن احتياطي أو بديل.
وحتى لا يكون الكلام من منطلق الأماني والتحليلات الانطباعية، فلا بد من استعراض التقارير القبرصية والإسرائيلية، وكذلك إلقاء الضوء على بعض الحقائق والإحصائيات التي تؤكد الحالة البائسة للكيان رغم الادعاءات الفارغة بالنصــر وبأن "إسرائيل" أقوى من أيِّ وقت مضى،كما جاء على لسان مجرم الحر ب الكذوب نتنياهو.
أولًا: التقارير التي تفيد بنفور الصـ.ـهاينة من الكيان:
هناك جملة من التقارير التي صدرت لرصد القلق القبرصي من تصاعد شراء الأراضي بشكل مريب، ويمكن استعراض أبرزها بشكل موجز:
1- تقرير أبرز صحيفة قبرصية "بوليتس"، عن تصاعد شراء الإسرائيليين للأراضي والمنازل في قبرص، أشار صراحة إلى زيادة الوتيرة بعد انطلاق المواجهة الأخيرة بين "إسرائيل" وإيران، ولفت إلى نشاط حركة حباد اليهودية في المنطقة،وهي إحدى المنظمات الاستيطانية المتطرفة، والتي ينتشر أعضاؤها في عدة دول، منها الولايات المتحدة، وفرنسا، وكندا، إضافة إلى الإمارات التي أنشأوا فيها المركز المجتمعي اليهودي الذي يحوي كنيساً، ولفائفَ من التوراة.
2- التصريحات القبرصية لفتت إلى حالة تسلل مشابه لما حدث في فلسطين، وهو ما يرمي إلى تأمين وطن بديل.
وكان لافتًا كلام ستيفانوس ستيفانو، الأمين العام لحـ.ـزب أكيل اليساري، وهو أكبر أحزاب المعارضة في قبرص، والذي قال:
إن الإسرائيليين يشترون الأراضي في بلاده، بشكل غير خاضع للرقابة، وأضاف: إن "بلدنا يُنتزَعُ مِنّا… إسرائيلُ تحتـ ـلُّنا".
وخرجت منشورات حـ.ـزب أكيل على وسائل التواصل الاجتماعي، لتقول عبارات مثل: "إسرائيل الجديدة، والدولة الجديدة التي احتـ ـلتها إسرائيل".
3- جملة من البيانات الحكومية القبرصية ربطت الظاهرةمباشرة بأزمات الكيان، سواء الحربية، أو السياسية، عند أزمة التعديلات القضائية، حيث قالت البيانات:
إن الإسرائيليين أصبحوا الآن رابعَ أكبرِ مجموعةٍ من المشترينَ الأجانبَ - بعد البريطانيين والروس، في بافوس وخلف اليونانيين والروس في ليماسول – كما شهد الحضور الإسرائيلي في قبرص تصاعداً لافتاً، إذ ارتفع عدد العائلات المقيمة من 2000 إلى 3500،بعدالسابع من أكتوبر، ليصل عدد الإسرائيليين إلى نحو 15 ألف شخص.
كما أن بعض التجمُّعاتِ السكنيةِ بدأت تخرج عن الطابع الفردي، أو السياحي، وتتحول إلى نواة اجتماعية ودينية شبه متكاملة.
كما رَصَدتِ التقاريرُ استغلالَ السياحةِ،للاستكشاف والتسلل، حيث قالت في هذا الصدد:
- [ ] إن قبرصَ أصبحت وجهةً مفضّلةً للسياحِ الإسرائيليين، حيث زارَها أكثرُ من 411 ألفَ إسرائيليٍّ، خلال عام 2024، ما يجعلهم ثاني أكبر مصدر للسياحة، بعد البريطانيين. ورغم الطابع المؤقت الذي يؤكده بعض الوافدين، فإن الحضورَ الإسرائيليَّ آخذٌ في التّرسُّخِ والتوسع.
وقالت تلكَ التقاريرُ: إنَّ التّصاعدَ تزامَنَ مع التعديلات القضائية المثيرة للجدل، عام2023، وكل هذا يؤكد نفورَ الصـ.ـهاينةِ من الكيان وتطوراته، وما صاحب هذه التعديلات من تحول الكيان للقمع والديكتاتورية الصريحة.
4- وقد نقلت التقاريرُ كلامًا صريحًا عن أسباب الهجرة، إذ نقلت عن الحاخام آري راسكين، أحد وجوه الجالية اليهودية في قبرص قوله: إن الكثيرين غادروا "إسرائيل" بحثاً عن "مكان أكثر هدوءًا وأماناً"، مستغلين فرص العمل عن بُعد، كما اعتبر آخرون قبرص نقطة عبور للهروب من القبضة الاجتماعية والدينية للكيان.
وهو دليل على الفشل الاقتصادي للكيان وتحوُّلِهِ لِبَلَدٍ طاردٍ لسكانه، وكذلك الفشلُ الاجتماعيُّ وتغلغلُ الانقساماتِ فيه.
ثانيًا: لماذا قبرص؟ ودلائلُ كونِهِ وطنًا بديلًا.
هناك عدة حقائق تقول بأنّ هذه الظاهرةَ تُعَبِّرُ عن قلقٍ وضبابيةٍ تُغَلِّفُ مستقبل الكيان،بعد اهتراءِ الوضعِ الداخليّ وافتقاد الأمن، والذي يعدالعاملَ الأبرزَفي جذبِ المستوطنين، وهو ما تَمَّ نَسْفُهُ بالبقاءِ الدائم ِفي الملاجئ، بالإضافةِ إلى الأزمات الاقتصادية المتلاحقة بسبب الحرب والخراب اللاحق بالاستثمارات، وخلوِّ الشمالِ على الحدودِ مع لبنان، وهو أكبرُ المناطقِ الصناعية، وضربُ سُمْعَةِ الشركاتِ الناشئةِ في الوسط، ومنطقة غوش دان "تل أبيب الكبرى"، ويمكن رصد هذه الشواهد تاليًا:
أولًا: قبرص تشكل تاريخيًّا حليفًا قويًّا للكيان ولا تشكل خطرًا يستدعي توسيع الكيان على حسابها وما يترتب على ذلك من استعداء لصديق دافئ، حيث تسمح قبرص بوجود عناصر من "الموساد" و"الشاباك" في مطارات بافوس ولارنكا، وهو ما يعكس عمق التعاون بين الطرفين.
ثانيًا: الجزيرة القبرصية كانت من بين المواقع المرشحة لإقامة وطن قومي لليهود، إلى جانب أوغندا والأرجنتين، وذلك قبل استقرار الاستعمار على اختيار فلسـ.ـطين كموقع للمشروع الصهـ.ــيونـ.ـي.
كما صدرت مبادرة عن الإسرائيلي يوسف لاوفر، تنحو لإقامة بؤرة استيطانية في قبرص، وقد سوَّغ مبادرته هذه باستدعاء التاريخ، إذ قال، إن الجزيرة تقع ضمن ما أسماه "حدود دولة إسرائيل الكبرى"، والتي تمتد لتشمل سيناء، جنوب لبنان، جنوب تركيا، وشرق البحر المتوسط. وقال، إن رؤيته تماثل تجربة الاستيطان في فلسـ.ـطين، واستدعى لاوفر التاريخ اليهودي في قبرص، مشيراً إلى وجود طوائف يهودية استوطنت الجزيرة بين عامي 1883 و1939، بهـ.ـدف إعطاء طابع "تاريخي" لفكرته الاستيطانية.
ورغم صياغة المبادرة باعتبارها توسعية فإنها قوبلت بهجوم شديد وعريض ممن عدُّوها مبادرة أزمة لا مبادرة توسُّع، إذ تم وصف مروِّجيها بالخونة للحلم الصهـ.ــيونـ.ـي.
ثالثًا: تشكل القواعد العسـ.ـكر ية الوطنية والأجنبية في قبرص ولا سيما القواعد البريطانية والأميركية، مركزًا لجمع المعلومات الاستخبارية وشبكة مراقبة لمنطقة الشرق الأوسط والبحر المتوسط، واستخدمت القوات الأميركية والبريطانية القواعد العسـ.ـكر ية في قبرص كمركز انتشار؛ لتنفيذ عمليات واسعة شملت دولًا إقليمية، بما فيها سورية والعراق وأفغانستان وليبيا واليمن.
كما تخدم هذه القواعد المصالح الإستراتيجية الإسرائيلية في المنطقة عبر التعاون العسـ.ـكر ي والاستخباراتي، ومنذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، تدعم القوات الأميركية والبريطانية "إسرائيل" في الـ.ـعـ.ـدوان الذي تشنه على قطـ.ـاع غـ.ـزة، وتزودها بالأسلحـ.ـة والمعلومات الاستخباراتية، مستخدمةً قاعدتي أكروتيري وديكيليا.
وهو ما جعل الشـ.ــهـ.ـيد الأسمى السـ.ـيـ.ـد حسن نـ.صـ.ر الـلـ.ـه يصدر تحذيرًا مباشرًا للحكومة القبرصية من مغبة فتح المطارات والقواعد القبرصية لإسرائيل إذا قررت شن حرب على لبنان.
كما تفيد التقارير بأن القوات البريطانية والأميركية تدعم الهجوم الذي تشنه "إسرائيل" على غـ.ـزة بالأسلحـ.ـة والمعلومات الاستخباراتية من قاعدتي أكروتيري وديكيليا، وأن الولايات المتحدة تنقل أسلحة إلى "إسرائيل" من مختلف أنحاء أوروبا باستخدام قاعدة أكروتيري.
وبالتالي فلا حاجة للتوسع الصهـ.ــيونـ.ـي والاحتـ ـلال؛ بدليل عدم امتلاك "إسرائيل" أي مرافق عسـ.ـكر ية في قبرص، واكتفائها بالارتباط بعلاقات عسـ.ـكر ية ومعاهدات أمنية مع قبرص وبريطانيا وأميركا، مما يخولها الاستفادة بفاعلية من القواعد العسـ.ـكر ية في الجزيرة.
وهو ما يؤكد أن هذا التدافع نحو قبرص هو نوع من الاحتماء بأميركا وبريطانيا، على غرار الاحتماء بالانتداب البريطاني لفلسـ.ـطين وتوغل العصابات الصهـ.ــيونـ.ـية تحت جناحه وقضم فلسـ.ـطين قطعة تلو أخرى.
إن هروب الصـ.ـهاينة في أثناء الحر ب مع إيران وما سبقه من بدايات رصدتها التقارير عند بداية طـ.ـوفان الأقصى، وكذلك عند أزمة التعديلات القضائية وما صاحبها من احتجاجات، هو خير دليل على فشل المشروع الصهـ.ــيونـ.ـي وبداية انهياره وفقدانه لعامل الجذب الاستيطاني، وبالتالي هو هروب جماعي وليس توسعًا باتجاه "إسرائيل الكبرى"؛ بدليل حرص الكيان على منع الهجرة وحبس المستو طنين، وانزعاج الحكومة الصهـ.ــيونـ.ـية من الفرار إلى قبرص، وإلا لكان الكيان اتخذ الحر ب ذريعة لتشجيع الهجرة والاستيطان والتسلل، فيما الواقع يقول، إنه احتماء بالقوى الأمريكية والبريطانية التي تحتــل قبرص عمليًّا.