على مدى اليومين الماضيين اتجهت كافة الأنظار نحو قمة مجموعة البريكس الخامسة عشر, التي استضافتها جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا, وعلى الرغم من وضوح كلمات القادة والمشاركين, حول الطموحات والأهداف والاّليات السلمية الساعية لتدعيم استقرار العالم, إلاّ أنها وُضعت على مشرحة وسائل الإعلام الغربية, التي حاولت إفشالها قبل أن تبدأ وأثنائها, والتشكيك في نواياها وأهدافها, والإسترسال في استعراض أهدافها "الخفية", التي تصب بحسب سردياتهم, في خانة المواجهة والعداء الجيوسياسي للولايات المتحدة وليس من أجل منافستها إقتصادياً وسياسياً, عبر أداءٍ إعلامي ممنهج يُثبت عجز الغرب ورفضه قبول الاّخرين, واحترام حقوقهم في التقدم والإزدهار, وسعيهم لضمان السلم والسلام الدوليين في عالمٍ يكون أكثر عدلاً وإنصافاً ومرونةً, وغير خاضع للهيمنة الغربية بالقيادة الأمريكية.
وعلى الرغم من إزدحام ملفات القمة, إلاّ أن ملف الحرب الأوكرانية كان حاضراً بقوة, كنتيجة طبيعية لتأثيرات وتداعيات الحرب الأوكرانية على الدول المشاركة في القمة والدول الغربية وكافة دول العالم على حدٍ سواء, بفضل حزم العقوبات الغربية المتتالية والمستمرة على روسيا, والتي أفضت من حيث النتيجة إلى نتائج لم يتوقعها الغرب, وانعكست نمواً على إقتصاد الدولة الروسية, وتوسعاً في نطاق تجارتها وعلاقاتها الدولية, وبدفع تحولها أكثر فأكثر نحو اّسيا وأفريقيا على حساب أوروبا, فحاجة الدول للطاقة والأسمدة والحبوب وغير مواد , هي أساس سعيها لتحقيق التنمية وتطوير إنتاجها الزراعي والصناعي, وليس لضمان النفوذ الأمريكي هنا وهناك, وسط ترحيب روسيا والصين بتوسيع إنضمام الدول لهذه المجموعة, والمساهمة في زيادة وربط وتشبيك قدرات الدول الطامحة لتغيير النظام العالمي الأحادي, وتقليم أظافر الهيمنة الأمريكية رويداً رويداً.
وفي سياق دحض الأكاذيب الغربية حول التشكيك بأهداف ونيات دول مجموعة البريكس السلمية, أعرب الرئيس بوتين عن "امتنانه" لدول البريكس ولجهودها في حل للأزمة في أوكرانيا, بغية "التوصل إلى تسوية سلمية للصراع الدولي على الأراضي الأوكرانية", وأوضح أن دول البريكس تعارض أي نوع من الهيمنة وسياسة الإستعمار الجديد، وأكد الإتفاق على "تشكيل نظام عالمي متعدد الأقطاب العادل والمستند إلى القانون الدولي، واحترام المبادئ الأساسية لميثاق الأمم المتحدة، وسيادة الدول واحترام حقوق شعوبها".
بات من المعروف أن الولايات المتحدة هي من ترفض الحلول والمفاوضات لإنهاء الحرب في أوكرانيا, وبحسب وسائل الإعلام ونقلاً عن المستشار السابق لرئيس البنتاغون العقيد دوغلاس ماكغريغور قوله:"فشلنا في كل ما أردنا تحقيقه في أوكرانيا نحتاج إلى وقف القتال والتوصل إلى اتفاق قد لا نحبه, وإذا استمرت واشنطن في رفض مفاوضات السلام فقد يصل الجيش الروسي إلى غرب أوكرانيا على حدود الناتو ويسيطر على أوكرانيا بأكملها", في حين وصف الرئيس بوتين أن انتهاء الحرب في أوكرانيا بأنه "هدفٌ روسي", واتهم الغرب وأتباعه بإطلاق الحرب في أوكرانيا على الأهالي في دونباس, الذين رفضوا الإنقلاب الذي خططت له ودعمته الولايات المتحدة والدول الغربية للحفاظ على هيمنتها حول العالم.
مما لاشك فيه أن قمة البريكس رفعت الفيتو في وجه الدولار، ووجهت صفعة جديدة للعملة الأمريكية الأكثر استعمالاً في المبادلات التجارية عالمياً, من خلال الإتفّاق المبدئي على إستبدال الدولار بالعملات المحليّة في المعاملات بين أعضاء المجموعة, في وقتٍ تروج فيه وسائل الإعلام الغربية, إلى سعي بكين لتحويل مجموعة البريكس إلى منافس جيوسياسي لمجموعة السبع، خصوصاً وأنها تفوقت عليها بشكلٍ فعلي, بدلالة كافة المؤشرات الإقتصادية لعام 2020، حيث سجلت مساهمات دول المجموعة في الإقتصاد العالمي ما يعادل مساهمة دول مجموعة السبع, وملاحظة ما يمكن توقعه من زيادة محتملة نتيجة إزدياد عدد دول البريكس المنضمة حديثاً , وتلك التي أعلنت رغبتها في الانضمام إلى المجموعة.
لقد قدمت نفسها مجموعة البريكس, كداعم قوي وفعلي وضامن لتطوير البنى التحية والطرق ومشاريع التنمية , عبر تقديم بنك التنمية الجديد, الذي قدم أكثر من 50 مليار دولار ومول حوالي 96 مشروعاً تجاوزت قيمتها 33 مليار دولار, كما قدم للدول كل ما تحتاجه ضمن إطار السيولة المفقودة خصوصاً في "الأوقات الحرجة", الأمر الذي أثار حفيظة وقلق الرئيس بايدن, الذي سارع للمطالبة بإصلاحاتٍ جوهرية خلال قمة مجموعة الـ 20 القادمة في سبتمبر/أيلول القادم, وبتعديل نظام البنك وصندوق النقد الدوليين, والتحرك الفوري لدعم الدول في مسألة ميزان المدفوعات والسيولة الدولارية في الأوقات الحرجة.
ومع انتهاء القمة يوم الخميس 24/اّب/اغسطس, بدا واضحاً أن سقف طموحات قمة البريكس ومستقبلها, جاء أعلى مما توقعه فريق الولايات المتحدة والدول الغربية, بالتوازي مع توسع المجموعة وإنضمام عدة دول نفطية, كإيران والإمارات والسعودية بحضورها السياسي والإقتصادي, كذلك مع إنضمام الجزائر لاحقاً وبما تمثله من بعدٍ على مستوى الطاقة والغاز في ظل الحرب والعقوبات على روسيا, وعليه فإنه مع انضمام هذه الدول ستحظى دول المجموعة بكاملها برافعةٍ أساسية بالمعنى الإقتصادي – السياسي – المالي , خصوصاً مع حصول الإنسجام والتوافق بين تلك الدول حول القضايا الدولية الدقيقة والهامة.
كما لوحظ من خلال المناقشات, ونتيجةً لتباين الاّراء حول تحديد معايير الإنضمام, فقد طفت على السطح بعض التناقضات بين الهند والصين حول اّلية وشروط قبول الأعضاء الجدد في المجموعة, والتي توزعت ما بين ضرورة حفاظها على حيادها السياسي ودفاعها عن مصالحها الإقتصادية, أو بكونها دول حاضرة ومستعدة لقبول التحول السياسي إلى قوة سياسية لمواجهة الولايات المتحدة.
في وقتٍ أكد فيه رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا أن بلاده تدعم توسيع المجموعة، لكن يبقى من الضروري أن يتجه سعي دول البريكس أولاً نحو تعزيز علاقاتها مع الدول التي تم قبول إنضمامها اليوم, وتلك التي تخطط للإنضمام لاحقاً, بإعتبار أن الرغبة بالإنضمام تنبع من المطالبة بنظام أكثر إنصافاً للعلاقات الدولية, والإجماع على "معارضة النظام أحادي القطب".
على الرغم من استياء واشنطن وقلقها من تنامي قدرات مجموعة البريكس, إلاّ أنها تتخوف من إعتقادها بتحول تأثيرها الإقتصادي إلى تأثير سياسي سيجعل منها خلال وقتٍ قياسي قوةً كبيرة قادرة على الحد من الهيمنة الأمريكية والغربية وأقله منافستها, الأمر الذي يؤكد تحجّر الفلسفة السياسية للغرب, التي تعتبر أن البريكس ستكون مجموعة منافسة ومعادية لمجموعة السبع, وفضحت بذلك امتلاكها ذهنية عاجزة عن استيعاب أن سعي البريكس لإقامة نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب, يهدف إلى حل المشكلات العالمية والإقليمية, وليس لجعلها موضوعاً للمنافسة "الخشنة" بين الكتل المتعادية.
ومع انتهاء قمة جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا, أعرب قادة مجموعة البريكس في بيانهم الختامي, عن قلقهم بشأن استخدام التدابير الأحادية الجانب، التي لا تتفق مع مبادئ ميثاق الأمم المتحدة وتؤدي إلى عواقب سلبية خاصة في البلدان النامية, ودعوا إلى الحد من التسلح, ولإستخدام العملات الوطنية في التجارة الدولية، وإلى نظامٍ دولي متعدد الأطراف ديمقراطي وخاضع للمساءلة, وجددوا دعمهم "لإرساء نظام عالمي للتجارة الدولية , على أن يكون نزيهاً وقائماً على قواعد منظمة التجارة العالمية.
كذلك، أكد البيان على "ضرورة حل المشكلة النووية الإيرانية من خلال الوسائل السلمية والدبلوماسية، ووفقاً للقانون الدولي"، ودعت المجموعة إلى تعزيز الحد من التسلح ومنع الانتشار، بما في ذلك اتفاقية حظر استحداث وإنتاج وتخزين الأسلحة البيولوجية والكيميائية وتدمير تلك الأسلحة, بالإضافة إلى تأكيد البيان على التزام المجموعة بتعزيز التعاون في مجال الزراعة وتطويرها لتحسين الأمن الغذائي.
كما أعربت المجموعة عن دعمها الكامل لروسيا، ومهمتها برئاسة المجموعة في عام 2024، واستضافتها للقمة السادسة عشر في مدينة قازان الروسية.
ومع نهاية القمة, وفي اللحظات الأخيرة لإسدال ستارها, وبعد الاتفاق على شروط العضوية, تمت دعوة ست دول هي الأرجنتين ومصر وإثيوبيا وإيران والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة , للمشاركة في آلية تعاون البريكس.
م.ميشيل كلاغاصي
30/8/2023