كتب الأستاذ حليم خاتون:
كما في الاحلام، وقد كان حلماً...
هل لعبت الصدفة دوراً؟
في أحيان كثيرة تكون الصدفة خير من الميعاد، فكيف بهذا اللقاء الصدفة؟
لم تكن الرحلة إلى لبنان مبرمجة لغير مرافقة زوجتي والأصغرين من أولادي في رحلة ربط الجيل الجديد بالأرض رغم كل السوء الذي ألحقته الطبقة الحاكمة في لبنان بهذه الأرض وبهذا الوطن المنكوب بطبقة الأقل من واحد في المائة...
لطالما حاورت أناساً من كل الأحزاب والتيارات...
احيانا كثيرة، كان هذا الحوار في الواقع...
لكن في أحيان أكثر، بقي حوارا في المخيلة...
كم تجادلت مع بيير. ع. أو مع الياس. ا. أو مع جورج. م. ممن كان معي في ثانوية الأشرفية قبل الحرب الأهلية، وقبل أن ينتهي لبنان الوطن للجميع إلى حارات وأزقة مخيفة تسيطر عليها الطوائف، وزعران الطوائف...
حتى زواريب صيدا التي كنت أراها جميلة جدا يوم كنت اسكن المدينة في مدارسها الداخلية، أصبحت مرتعا لكل شيء إلا الجمال والحضارة والتاريخ...
هنا وجدت الفرق بين من يريد أن يحافظ على مدينة جبيل وعلى تاريخها ودورها منذ ٦٠٠٠ سنة وحتى اليوم، وبين من ترك صيدا للفقر والعوز حتى انتهت الباحة أمام مدرسة المقاصد الإسلامية إلى ساحة تعج بذوي اللحى وما يسمى زورا لباسا شرعيا...
للأمانة، كان هناك خليط من الألبسة داخل زواريب صيدا القديمة؛ بما في ذلك ما هو غير محتشم بالمعنى الاسلامي للكلمة...
لكن كل تلك الألبسة كانت تغرق في الفقر الذي يلامس الجهل الذي يقضي على تاريخ المدينة...
قلعة صيدا التي كنت أراها كبيرة جداً يوم كنت طفلاً صغيراً في الداخلي حين كنا نخرج إلى السينما آخر الأسبوع، بدت لي صغيرة جدا بالمقارنة مع قلعة جبيل التي تحولت إلى متحف يمنع البناء على مساحات كبيرة حوله حتى يعرف العالم أن كلمة Bible جاءت من اسم مدينة جبيل التاريخي "بيبلوس"...
الأرجح أن الكتاب المقدس الاول عند المسيحيين خرج من تلك المدينة على المتوسط إلى أوروبا ومن ثم إلى العالم؛ لذلك جاءت كلمة Bible من كلمة بيبلوس...
لا اعرف لماذا تنكر رفيق الحريري لعاصمة الجنوب والمقاومة، وتركها عرضة للفوضى وللجاهلية الإسلامية المعاصرة، تماما كما يفعل اليوم محمد نجيب ميقاتي مع عاصمة الشمال طرابلس، وكما يهمل الرئيس نبيه بري قلعة تبنين...
منذ بضعة سنين وفي زيارة سياحية إلى جزيرة مايوركا، اخترت فندقاً يبعد حوالي الساعة عن العاصمة بالما للتوفير والهدوء...
لزيارة العاصمة، والاستمتاع بالتجول في شوارعها وتلك الأزقة العابقة بالتاريخ، بما في ذلك تاريخ الوجود العربي في إسبانيا، قمت باستئجار سيارة ليوم واحد...
في طريق العودة طلبت ابنتي الكبيرة أن نزور القلعة الأكبر في الجزيرة على اعتبار أنها المعلم السياحي الثاني على هذه الجزيرة من حيث الأهمية...
ما أن عبرت الباب الرئيسي للقلعة، حتى غمرني احساس باني زرت هذا المكان سابقاً، وربما عدة مرات...
كان الاحساس مشتركا مع ابنتي...
لكن دقائق قليلة كانت كافية لتبيان السبب...
القلعة هي توام لقلعة تبنين في جنوب لبنان، مع فرق بسيط...
قلعة مايوركا وجدت من يجعل منها معلما سياحيا بارزا في جزيرة تحتل مكانا مرموقاً على خارطة السياحة العالمية، بينما بقيت قلعة تبنين، كما قلاع لبنان الاخرى، يتيمة كما ساحات مدينة صور التي حولتها مخيمات اللجوء الفلسطيني التي حاصرت المدينة من كل الجهات إلى سجن كبير لا علاقة لأهله بتاريخ أجدادهم الذين صمدوا أما حصار جحافل الاسكندر المقدوني...
هناك في صور، تحولت الآثار إلى مجرد حجارة صماء لا تتحدث عن تاريخ المدينة...
باحة كبيرة على البحر بقيت صماء بدون حتى كتابات بسيطة تدل على اسم صاحب هذا الناموس أو ذاك، أو صورة مقاربة لهذا المعبد أو ذاك، أو تصور لما كان عليه بلاط ملك أو امير تلك المدينة في تلك الحقبة وما هي تلك الحقبة...
في مدينة صور يموت التاريخ كل يوم الف مرة...
في مدينة صور، يغتصب مواكب عزاء الحضارة مجموعة كبيرة من المقاهي والفنادق التي تريد خلق برودواي فوق جماجم تاريخ مقاومة جبل عامل في وجه المماليك ومن بعدهم العثمانيين يوم استباح تتار الجاهلية الإسلامية هذه المدينة ودمروها تحت شعار أن مال الروافض وعرضهم حلال...
بقيت صور مائتي سنة مدمرة حيث هرب أهلها واعتصموا في جبال الداخل خوفا من بطش من رفع رايات محمد أثناء قتل اتباع دين أهل بيت محمد...
في صور، جرى جرف التاريخ، تماما كما جرى قبل ذلك جرف الرمل من البحر في اكبر كارثة بيئية وعمرانية عرفتها المدينة، وعرفها جبل عامل...
جاء جميل سعيد، ومثل كل حيتان المال، قام بجرف رمل بحر صور وبيعه للبناء بحماية رجال ميليشيا...
خسرت شواطئ صور جزءا مهما من شواطئها...
وخسرت مدينة صور وخسر جبل عامل ليس فقط التاريخ، بل البناء أيضاً..
تم معظم البناء في المدينة وفي جبل عامل من رمل بحري مالح قضى مع الوقت على قوة الباطون حيث تنتشر العيوب كما التصدعات في كل زاوية من زوايا أبنية تلك الحقبة...
المهم...
عودة إلى حوارات الحلم واليقظة...
حوارات جرت حتى مع قيادات من القوات أو حركة أمل أو التيار أو حزب الله...
كم مرة وصل النقاش مع جماعة المستقبل أو الجماعة الإسلامية إلى نفس طريق الجدل البيزنطي العقيم...
اللبناني عنيد كما التيس في الدفاع عن الموقف حتى وإن أخذته العزة بالاثم...
لكن مع السيد كان كل شيء يختلف...
فجأة، وجدت نفسي في اجتماع يحضّر لانتقال السيد نصرالله من البيت الذي نتواجد فيه، إلى لقاء مع اسمين لم اسمع بهما من قبل...
وُضعت الخطط باستعمال المسطرة والقلم على سجادة لم استطع تحديد مكانها إن كانت على الأرض أم على طاولة الاجتماعات...
تماما كما في الأحلام...
تختلط الأمور على العين...
لكن السيد فاجأ الجميع بأنه يريد الذهاب كما كل الناس في النقل العام...
هل يعقل أن لا يكون السيد على علم أن في لبنان لم يعد هناك لا قطارات ولا ترامواي ولا حتى اتوبيسات "مثل الخلق"؟
في لبنان لا يوجد نقل عام، بل مجرد بضعة فقراء يسوقون فانات لا دخل لها بمفهوم النقل العام...
ابتسم السيد وهو يقف وقد ظهرت من خلف باب كبير باحة كبيرة تعج بالحياة...
كأنه سوق، لكن دون بيع وشراء...
كان الحديث يجري عن حماية السيد أثناء الإنتقال...
هنا تدخلت أنا لأقول للسيد ولرجال الحماية أن سبب الحرص الشديد والخوف من غدر الإمبريالية والصهاينة هو أننا لم نقم قبلا بما كان يجب القيام به...
لم نجعل اسرائيل أو أميركا او اي بلد يقوم بعمل ضدنا يدفع الثمن كما يجب...
لم نعاقب السويد ولا الدنمارك على العبث بالقرآن...
لم تدفع فرنسا ثمن السماح بنشر الرسوم الكاريكاتورية السوداء تحت عناوين حرية نشر الكراهية
ضد الآخر...
الآخر هنا هو المسلم الذي حولته أنظمة التخلف التي تدعي الاسلام الى لاجئ في بلاد الغرب الذي كان يسكن الكهوف يوم كانت حضارة بلقيس في اليمن تحاور سليمان...
لم نحاسب اسرائيل، ولا أميركا على الاغتيالات...
بعد اغتيال عماد مغنية، فتحنا حسابا، كان يجب أن يكون الإيداع الأول فيه تدمير عشرات المستوطنات في الجليل على الأقل...
كان يجب في كل مناسبة من مناسبات سقوط الشهداء القادة، أن تتساقط عشرات، بل مئات الصواريخ على تلك المستوطنات حتى يتذكر من قام بذلك الاغتيال كما باغتيال السيد عباس أنه إنما جر الويل والثبور وعظائم الأمور على أهله وأهل الذين خلفوه...
تماما كما كان يجب البدء فعلا لا قولا باقتلاع أميركا من غرب آسيا بعد اغتيال قاسم سليماني، وليس الاكتفاء بعشرين صاروخ على عين الأسد مع ما لهذا القصف من رمزية عالية في عالم القطب الواحد الذي بدأ يسقط...
حماية القادة في كل محور المقاومة يجب أن يكون عبر زلزلة الأرض تحت أرجل الأميركيين وأتباعهم تماما كما فعل ابطال عملية المارينز والمظليين في بيروت بعد اجتياح ال ٨٢...
أميركا اليوم ليست بقوة وتصميم أميركا في فيتنام، ونحن لسنا أقل قوة وأقل تصميما من الفيتناميين...
هل كان اللقاء في بيت ابن خالي الشيخ محمد علي...
لكن ابن خالي توفي منذ فترة...
كانت رحلة العودة من بيروت متعبة...
كانت المرة الأولى التي انام فيها هذا النوم العميق منذ شهور، وربما منذ سنوات...
استيقظت دون أن أكمل الحوار مع السيد...
لكن السيد يعرف أن شعب المقاومة يطلب منه أكثر بكثير من الكثير الكثير الذي عمله...
شعب المقاومة لا يزال ينتظر أن تخرج المقاومة من وحول السلطة وتقود الناس كما فعلت مقاومات أخرى للإطاحة بالطواغيت الجدد الذين لا يقلون ظلما وفسادا وعنجهية عن الشاه الإيراني وحسني مبارك وأنور السادات وفاروق في مصر وماركوس الفلبيني وباتيستا في كوبا...
انتهى الحلم الطويل بعد لحظة، لكن دون أن أقول للسيد نصرالله أن التاريخ لا يرحم من لا يقوم بحراسة التاريخ كما الجغرافيا...
لقد حمى السيد الجغرافيا...
بقي عليه أن يحمي التاريخ...
حليم خاتون