ينعقد لسان المرء عندما ينظر إلى ما وصلت إليه ثورة الإباحية الجنسية الغربية حتى الآن، ويصاب عقله بالانغلاق عندما يحاول أن يمعن تفكيره في المدى الذي يمكن أن تصل إليه في المستقبل، وما الذي سينتهي إليه المجتمع البشري نتيجة لذلك.
وربما يتساءل كثيرون: كيف وصل الأمر إلى ما وصل إليه من التأصيل العلمي والتعليمي والتشريعي، وكيف استسلم العلماء والمفكرون والنخب القيادية في شتى المجالات لإفرازات هذه الثورة وتسابقوا لحمل لوائها، والعمل على توسيع رقعتها لتصل إلى كافة أقطار الأرض؟
ولأننا نعيش حاضرنا مشدودين بقوة إلى المستقبل، تاركين الماضي خلف ظهورنا غير مأسوف عليه؛ يصعب علينا فهم البدايات، وإذا ما أخذنا الفضول وحاولنا الرجوع إليها فإننا سنصعق من الوهلة الأولى لهول ما فاتنا من أحداث وأفكار وتشريعات شكّلت السلوك البشري على مدى القرنين الماضيين، ولا تزال مستمرة في ذلك على مدى القرن الحالي.
عارض "بنثام" بشدة حصر النشاط الجنسي بين ذكر وأنثى واحدة، ضمن حدود الزواج من أجل إنجاب الأطفال، حسب التعاليم الدينية التوراتية والمسيحية، ودعا إلى إطلاق العنان لما يسميه "النشاط الجنسي غير النظامي" الذي يتخذ أنماطاً عديدة لتحقيق الإشباع الجنسي.
بداية الشرارة
يعتبر الفيلسوف البريطاني "جيرمي بنثام" (1748-1832م) مؤسس مذهب "النفعية" (Utilitarianism) من أطلق الشرارة الأولى لثورة الإباحية الجنسية، وقد أشرنا في مقالنا السابق إلى أنه لم يكن فيلسوفاً ومفكراً قانونياً عادياً، فما طرحه من أفكار، وما قام به من أدوار، وما خلفه من مباحث ومقالات وأطروحات حول الدين والأخلاق والجنس والقانون والاقتصاد والسياسة؛ جعلته أخطر فلاسفة القرنين 18 و19 الميلاديين، ولم يحظ أحد من الفلاسفة البريطانيين بمثل ما حظي به من الاهتمام والتبجيل في بريطانيا. وفي عام 1959، تم إنشاء لجنة "بنثام" تحت رعاية جامعة كلية لندن للإشراف على جمع وطباعة أعمال "بنثام" الكاملة، والتي قامت بإنشاء ما يُعرف بمشروع "بنثام"، الذي أصدر حتى الآن 38 مجلداً، ويتوقع أن يصل العدد الإجمالي للنسخة الكاملة إلى 80 مجلداً.
وتحت عنوان "حول المخالفات الجنسية، وكتابات أخرى عن الأخلاق الجنسية" صدر المجلد رقم 30 عام 2014، مشتملاً على 3 مقالات حملت العناوين التالية: "حول المخالفات الجنسية"، و"سيكستوس"، و"فكرة عامة عن [ليس بولس بل يسوع]"، و[ليس بولس بل يسوع] كتاباً مستقلاً صدر لـ "بنثام" من قبل. وكانت المقالات الثلاثة بمثابة الشرارة التي أطلقها "بنثام" في العقد الأول من القرن 19، أي قبل حوالي 220 عاماً، لتنطلق بعدها تدريجياً ما بات يعرف بـ "الثورة الجنسية" في الدول الغربية.
وكان من الطبيعي مع إقصاء سلطة الدين من الدولة والمجتمع، وتحويل الأخلاق إلى قوانين وتشريعات تتوافق عليها النخبة الحاكمة، وإطلاق الحريات الفردية في مجتمعات أكلتها الحروب والصراعات والاستبداد السياسي والديني والاقتصادي؛ كان من الطبيعي لهذه الثورة أن تشق طريقها دون عوائق كبيرة، وأن تجد الدعم من النخب السياسية والفكرية والاقتصادية التي قادت عملية هدم النظام الغربي القديم وتأسيس النظام الجديد على مدار القرنين 18 و19.
وأقام "بنثام" العديد من العلاقات الجنسية دون زواج، حيث لم يتزوج قط، وتماشياً مع مذهبه النفعي، طرح في المقالات الثلاثة الأسس التي قامت عليها الثورة الجنسية الغربية الحديثة، التي لم يسبقه إليها أحد، فاتحاً الباب على مصراعيه لمن بعده ليمروا من خلاله، ويكملوا مسيرته. وقد انتقد كثيرون إدارة مشروع "بنثام" لتأخرها في إصدار هذا المجلد حتى عام 2014.
دعا "بنثام" إلى إلغاء تجريم الشذوذ الجنسي، وطالب المؤمنين المتدينين بإثبات أن الرب قد أصدر إدانة عالمية للشذوذ الجنسي، مدعياً أن ما أدانه الكتاب المقدس في قصة "سدوم وعمورة" هو الاغتصاب الجماعي، وأن المسيح (عليه السلام) لم يدن هذا النوع من العلاقات الجنسية، بل ذهب في شططه إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير.
سدوم وعمورة
يقدم "بنثام" الحجة النفعية للحرية الجنسية على اعتبار أن الشهوة الجنسية هي أنقى أشكال المتعة، مخالفاً في ذلك وجهة النظر المسيحية التقليدية القائلة إن الشكل الوحيد المقبول أخلاقيا للنشاط الجنسي هو بين رجل واحد وامرأة واحدة، في إطار حدود الزواج بغرض الاستمتاع والإنجاب. ويعزز "بنثام" وجهة نظره بأمثلة من اليونان وروما الكلاسيكية، حيث كانت بعض العلاقات الجنسية الشاذة بين الذكور تعتبر طبيعية، ويعتبرها نماذج بديلة للأخلاق الجنسية.
ومن جانبه يعتقد البروفيسور البريطاني "فيليب سكوفيلد" (Philip Schofield)، مدير مشروع "بنثام" وأستاذ تاريخ الفكر القانوني والسياسي في كلية الحقوق بجامعة كلية لندن؛ أن "بنثام" أنتج أول دفاع منهجي عن "الحرية الجنسية في تاريخ الفكر الأوروبي الحديث". ويرى "بنثام" أن الإشباع الجنسي كان بالنسبة لمعظم الناس أكثر الملذات كثافة وأنقى من جميع الملذات الأخرى، ولذلك عارض بشدة حصر النشاط الجنسي في الجماع بين ذكر وأنثى واحدة، ضمن حدود الزواج، من أجل إنجاب الأطفال، حسب التعاليم الدينية التوراتية والمسيحية.
ويطلق "بنثام" العنان لما يسميه "النشاط الجنسي غير النظامي" الذي يتخذ أنماطاً عديدة وصولاً إلى الإشباع الجنسي، كالجماع بين رجل وامرأة واحدة، عندما لا يكون أي منهما متزوجاً، أو عندما يكون أحدهما متزوجاً، أو عندما يكون كلاهما متزوجاً، ولكن ليس من بعضهما البعض؛ والجماع بين امرأتين، وبين رجلين، وبين رجل واحد وامرأة واحدة باستخدام أجزاء من الجسم لا تؤدي إلى الإنجاب، أو بين إنسان وكائن غير حي، بالإضافة إلى النمط الانفرادي للإشباع الجنسي، وأنماط لا حصر لها شملت أكثر من شخصين. ويرى أن الناس يحجمون عن الانخراط في مثل هذه الأنشطة التي تناسب أذواقهم، فيحرمون من الوصول إلى الإشباع الجنسي خوفاً من عقوبة القانون أو الدين أو الرأي العام.
وقبل أكثر من 200 عام؛ أدان "بنثام" بشدّة التصوير العدائي للشاذين جنسيًا في أدب القرن 18، ودعا إلى إلغاء تجريم الشذوذ الجنسي، حيث كان المرتكبون له يخضعون في إنجلترا لعقوبة الإعدام، لارتكابهم "جريمة ضد الطبيعة"، ويتم التشهير بهم والسخرية منهم في الصحافة والأدب، وطالب المؤمنين المتدينين بإثبات أن الرب قد أصدر إدانة عالمية للشذوذ الجنسي، مدعياً أن ما أدانه الكتاب المقدس في قصة "سدوم وعمورة" (قوم لوط عليه السلام) هو الاغتصاب الجماعي، وأن المسيح (عليه السلام) لم يدن هذا النوع من العلاقات الجنسية.
ويذهب "بنثام" بعيداً في شططه مدعياً أن الأناجيل قدمت دليلاً على أن المسيح انخرط في نشاط جنسي من هذا النوع، وأنه كان لديه من يفضلهم من الذكور. ويستطرد "بنثام" في تقديم قراءته الشخصية الشاذة للأخبار الواردة في الأناجيل المسيحية لدعم وجهة نظره.
وفي محاولة منه لإعطاء بعد اجتماعي اقتصادي؛ ربط "بنثام" ثورته الجنسية القائمة على الإشباع الجنسي الإباحي بضبط النمو السكاني، القضية التي ظهرت بقوة في بريطانيا في أعقاب انتشار كتاب "مقال في مبادئ السكان" (An Essay on the Principle of Population) لمؤلفه الاقتصادي البريطاني "توماس روبرت مالتوس" (1766-1834)، الذي طالب فيه بضرورة السيطرة على عدد السكان لتحقيق التوازن بينه وبين الإمدادات الغذائية المتوفرة، حتى لا تحدث المجاعات، ودعا إلى التوقف عن الجماع لتحديد النسل. وأيّد "بنثام" بشدّة ما ذهب إليه مالتوس، ولكنه لم يقتنع بالحل الذي طرحه، موضحاً أن مزايا الجنس غير الإنجابي الذي يدعو له لا تؤدي إلى زيادة السكان.
كما تعاطف "بنثام" مع النساء اللواتي يلدن سفاحاً، ويتعرض بسبب ذلك إلى النبذ والاضطهاد من المجتمع، فلا يبق أمامهن خيار سوى أن يصبحن عاهرات، مع الانحدار الحتمي إلى الشرب والمرض والموت المبكر. ورأى "بنثام" أنه من الأفضل بكثير موت الطفل عند الولادة بدلا من المرأة، حتى لا يعيش حياة ملؤها الألم والمعاناة. ويذكرنا هذا الرأي بالحركات النسوية المطالبة بحق المرأة في الإجهاض.
وقد انطلقت دعوة "بنثام" للحرية الجنسية الإباحية، وصارت أفكاره تتردد في أروقة النخبة، ليتلقفها من بعده العديد من الفلاسفة والمفكرين والعلماء، وأخذت في الانتشار التدريجي على مستوى التشريع والممارسة، لتصبح بعد ذلك واقعاً متكاملاً وجزءاً أصيلاً من مكونات الدول الغربية الحديثة، وتتحول فيها إلى رافد أساسي من روافد اقتصادها الوطني.
ولا عجب في ذلك بعد الانقلاب الهائل الذي قامت به ضد الدين والأخلاق، فلم تعد تلقي بالاً لتعاليم السماء، ولا للعيب والحياء، ولم تعد هناك أفعال وممارسات جنسية لا يصح القيام بها، مادامت تصدر عن أشخاص يتمتعون بحريتهم الكاملة التي يكفلها لهم الدستور والقانون، حتى وصلت هذه الممارسات اليوم حدّاً لم يكن يخطر ببال "بنثام" أن تصل إليه، بعد أن شرّعت الدول الغربية التحول الجنسي وفرضته على مناهج التعليم في سن من المرحلة الابتدائية.