‏خدعوك فقالوا أن
دراسات و أبحاث
‏خدعوك فقالوا أن "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" يعني تمسك عصاية وتضرب الناس في الشارع على الصلاة والصوم..
سامح عسكر
13 أيلول 2023 , 14:39 م


هذه الفكرة أخذها الإسلاميون والمطاوعة من السلطة الدينية العباسية، ثم المملوكية والتطبيق العثماني لاحقا ، ففي خلال هذه الفترة وضع الفقهاء كتب "السياسة الشرعية" وصنفت فيها عشرات الكتب، ومن ضمن أبواب هذه السياسة ما يسمى "سلطة المحتسب" التي جرى تفسيرها بإطار مذهبي تارة، وبإطار قمعي تارة، وكلاهما بشكل عنيف..

فالأمر بالمعروف يعني الأمر بحلال وواجبات المذهب، وإجبار الناس على ذلك

بينما النهي عن المنكر يعني النهي عن حرام المذهب وإجبار الناس على ذلك

القرآن لم يتناول فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بهذه الصورة، فالمُلاحظ أن الله ذكر هذا الأمر والنهي في سياق مختلف وهو (فعل الخيرات) (والنهي عن الشرور)..تابع من فضلك:

"ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر "[آل عمران : 104]

"يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات "[آل عمران : 114]

ومعنى ذلك أن المعروف المقصود هو الخير والعمل الصالح، والمنكر المقصود هو الشر والعمل الطالح..ودلالة ذلك في أن المعروف والمنكر ذكرا مبنيان للمجهول، فأخذا على إطلاقها، فصار المنكر هو ما أنكره الناس جميعا، وليس جماعة خاصة وقبيلة خاصة وشعب خاص، والمعروف هو ما عرفه وآمن به الناس جميعا وليس قبيلة خاصة وجماعة خاصة..

أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد ذكرا أيضا في سياق الأمر بالحريات وصلة الرحم والعدل والإحسان والدعوة للتيسير والتسهيل على الناس والنهي عن الاعتداء، في نفس سياق الدعوة للخيرات والعمل الصالح..

قال تعالى "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي "[النحل : 90]

"الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبآئث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم " [الأعراف : 157]

بل ذكر الله صفة المنكر بمعنى الاعتداء والكذب، فقد كان المشركون يعتدون على المؤمنين ويكذبون عليهم، فذكر الله أن تلك الأعمال هي (منكر)

"وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا " [الحج : 72]

"الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا " [المجادلة : 2]

وأخيرا: ذكر الله المنكر على أنه فعل قوم لوط

"أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر " [العنكبوت : 29]

نُلاحظ من ذلك أن كلمة المنكر هي ما أجمع البشر على إنكاره، والمعروف العكس أي ما أجمع البشر على الإيمان به، ورسالة القرآن جاءت للتذكير بذلك المعروف والمنكر في قلوب الناس ليس إلا، فالناس تعارفت على حب الخير والإحسان والعدل والصدق فهذا هو المعروف الواجب تتبعه والحض عليه، بينما أنكرت الشر والظلم والاعتداء والكذب..إلخ فهذا هو المنكر الواجب تتبعه والنهي عنه..

ولأن الإنسان يميل بطبعه للنفاق والشر جعل الله إنكار المنكر مشروطا بإقامة الصلاة، ليس المقصود بها الركعات الأربعة فقط، ولكن أن (تصل نفسك بالله) وتجعله رقيبا على نفسك، فالصلاة من جذر (الصلة) أي وصل النفس بربها عن طريق الإخلاص والصدق والزُهد والإحسان ونزاهة الضمير وسلامة العقل:

قال تعالى " اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون [العنكبوت : 45]

" الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور " [الحج : 41]

والذي يجادلك بأن الصلاة في القرآن معناها حصريا هي الركعات، قل: بأن الله يصلي على عبيده، فهل تقصد أن الله يقيم الركعات؟؟!

قال تعالى " أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون [البقرة : 157]

" إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما " [الأحزاب : 56]

ومعنى الآيات: أنه وبالعمل الصالح من العبد لا يصل نفسه فقط بالله، ولكن الله يصل به أيضا وعلامة ذلك (الرحمة) فرحمة الله هي أشهر علامة للصلة بين الله والعبد..

أما الركعات فهي مجرد إخراج شكلي لجوهر الصلاة المذكور، لذلك ورد ذكرها مقرونا بالعمل الصالح والنهي عن الاعتداء كقوله تعالى:

" إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" [البقرة : 277]

" ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " [النساء : 77]

وعشرات الآيات ذكرت الصلاة فيها مقرونة بالإنفاق على المحتاجين منها:

" الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون" [الأنفال : 3]

" الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون" [المائدة : 55]

" فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين " [التوبة : 11]

" قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية" [إبراهيم : 31]

" والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية" [الرعد : 22]

" إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة "[التوبة : 18]

" وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون" [التوبة : 54]

ولهذا المعنى الأخلاقي للصلاة ربط الله بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بأن شروط ذلك هي أن تدعو للعمل الصالح، وتصل نفسك بالله وتنفق على المحتاجين، فلو لم تكن من المنفقين ولم تعمل صالحا وتتدبر الكون بعقلك وحواسك فلست من المصلين ولا من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر...قال تعالى:

"والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله " [التوبة : 71]

"التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين" [التوبة : 112]

ولو جادلك مرة أخرى بأن الصلاة فقط تعني الركعات، ومن أداها فقد كتبت له أجرا، رد عليه بقوله تعالى " فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا " [مريم : 59]

فالشهوات قد يفعلها من يقيم الركعات في المسجد عادي، حيث تجده محافظا على الصلوات الخمسة في الجامع، لكنه برا الجامع إبليس يفعل كل المحرمات من الكذب والرشوة والاعتداء..إلخ، فلا مناص من تفسير الصلاة هنا على أنها (الصلة بين العبد وربه) والتي لا تتحقق سوى بالعمل الصالح، فيكون المعنى المنطقي أن من انهارت علاقته بالله وضاع ضميره ضاعت أخلاقه واستسلم لحظوظ النفس وشهواتها من المال والجنس والسلطة والقهر..إلخ..

ثم لو كانت الصلاة فقط تعني الركعات..لماذا قال تعالى " وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها "[طه : 132] وهل هناك مشقة في أداء ركعات بخمس دقائق؟..أم أن المشقة في العمل الصالح الذي لا يقدر عليه سوى الأقلية من الزهاد المتواضعين ؟..هل المشقة في ركعتين الصبح في 3 دقائق أم في ترك الشهوات والصبر عليها وكتمان الغيظ والحقد وعلاج النفس من الشرور والتصورات الخاطئة؟؟

أخيرا: قال تعالى " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم "[آل عمران : 110]

فلو كان المعروف والمنكر هو صلاتك وصيامك وضرب الناس عليهم، فلماذا قال تعالى أن المسلمين في زمن الرسول هم (خير أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر)؟..وهل أهل الكتاب يصلون صلاتك ويصومون صيامك؟..أم أن المعروف والمنكر المقصودين هو ما كان مفروضا على أهل الكتاب من عمل صالح وأضاعوه؟

لاحظ إني بكلمك بالقرآن والذي يقول بوضوح أن المنكر هو الفعل الشرير والاعتداء والكذب والبُخل والشذوذ الجنسي...إلخ، بينما المعروف هو العدل والإحسان والصدق والإنفاق على المحتاجين والصبر على الشهوات..وخلافه،

فلم يفسر القرآن معنى المنكر بشكل فقهي أو مذهبي، هذا من فعل البشر وقد اتبعه الإسلاميون في كتبهم اقتداءا وتقليدا بأئمة السياسة الشرعية قديما ، والذين صنفوا مصنفاتهم لإرضاء السلطة السياسية، كالأحكام السلطانية للمواردي وأبي يعلي الفراء، وغياث الأمم للجويني ومعيد النعم لتاج الدين السبكي، وأحكام أهل الذمة لابن تيمية وابن قيم الجوزية ..وغيرهم، إَضافة لشروح أبي حامد الغزالي لها في "إحياء علوم الدين" ..

فصار معنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لدى المطاوعة والإسلاميين يعني معاقبة من خرج عن الشريعة وإقامة الحدود الواردة في القرآن والحديث، رغم أنه لا صلة تماما بين آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبين آيات الحدود التي ذكرت في سياق مختلف باعتبارها قوانين لها غاية مضمنة بضبط وتوجيه المجتمع..ولولا ابتعاد القوم عن كتاب الله وتقديمهم كلام البشر والدين الأرضي الموازي في التاريخ والروايات ما وصلوا لتحريف واحد من أهم مصطلحات القرآن الكريم على الإطلاق..

هؤلاء هم مصدر فقه المحتسب وسياسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لدى الإسلاميين، والكتب الثلاثة الأولى كتبت بأمر الخليفة العباسي "القادر بالله" في القرن 5 هـ، وتأثر بها الغزالي ثم توسع في قبولها وشرحها في مصنفاته باعتباره تلميذا للجويني، إضافة لمصنفات ابن تيمية وابن قيم الجوزية التي كتبت بأمر السلطان المملوكي، وفيها صلاحيات واسعة للخليفة والسلطة العسكرية الدينية لم ينلها أي نبي مرسل..وسوف تلاحظون أن كافة أدلة وحجج الإسلاميين للمحتسب وفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يضربون به الناس على الصلاة والصيام مرجعها الأول تلك الكتب، ومدار فتاوى أئمتهم تذهب جميعها لتلك الكتب التي صنفت لظروف سياسية بشرية ما أنزل الله بها من سلطان..

ودمتم

المصدر: موقع إضاءات الإخباري