في الحادي والعشرين من سبتمبر الماضي, وصل الرئيس بشار الأسد إلى الصين حاملاً شموخ دمشق أولى حضارات العالم وأقدمها, لتلتقي بأعظم حضارات العالم, وهي البهية بتاريخها وسورها العظيم وشعبها وقائدها الكبير شي جين بينغ, وهي المؤمنة والداعمة لإستقرار سورية وسيادتها ووحدة أراضيها, وعاد الرئيس الأسد بعد انتهاء جدول الزيارة, ليضع دمشق على طريق الإنتصار, وطريق الحرير والسلام والإزدهار الإقتصادي والتلاقي الحضاري والإنساني.
وبتوصيف قادة كلا البلدين ووسائل الإعلام والكتاب والصحفيين, أكدت الزيارة على تاريخيتها وبإمتياز, وأنه بمجرد إنعقادها برمزيتها ورسائلها وتبعاً لنتائجها والإتفاقيات السياسية والإقتصادية التي تم توقيعها, كما أكدت على أهميتها الإستثنائية, وبأن ما قبلها سيختلف عما بعدها بالنسبة لسورية والصين, وعموم المنطقة الاّسيوية, والشرق الأوسط وخصوصاً العالم العربي, وبتأثيرها على الصراعات الدولية المرتبطة.
ومن اللافت للإنتباه, أنه بمجرد الإعلان عن زيارة الرئيس الأسد إلى الصين, هبت عواصف المواقف السياسية والتصريحات الغاضبة, التي أظهرت الإستياء الأمريكي والإسرائيلي, وكان من أولى تجلياتها المحلية, رفع متظاهري الحراك المشبوه في السويداء اللافتات الرافضة للزيارة والقمة باللغة الصينية !.
لقد كانوا المستاؤون على درجة من الغباء لفضح مخاوفهم وهواجسهم, وبات واضحاً أنهم يخشون بالدرجة الأولى أن تنسف القمة السورية – الصينية, مشروع الممر الهندي الشرق أوسطي الأوروبي, الذي تعتبر فيه سلطات الكيان الغاصب أكبر المستفيدين, وهو المشروع الذي تم الترويج له في قمة مجموعة الـ 20 في نسختها الأخيرة في نيودلهي وبغياب كلٍ من روسيا والصين, في الوقت الذي تمت الدعوة الرسمية للرئيس الأسد إلى القمة, وسط مؤشرات ومدلولات واضحة تؤكد تمسك الصين بمبادرة الحزام والطريق, وبسورية التي انضمت إليها رسمياً عام 2022.
وفي قراءة مشروع الممر الهندي, يبدو واضحاً أنه يستهدف عزل سورية ومصر وتركيا وإيران وبالتأكيد روسيا ومحيط فضائها الأوراسي, ويشكل تحدياً جيوسياسياً وخطراً حقيقياً يستهدف الصين والمبادرة الصينية ومشروع الحزام والطريق برمته, يفضح إصرار الولايات المتحدة على منع إنشاء الخط البري الذي يمتد من إيران إلى العراق إلى سورية وعبرها إلى أوربا, من خلال تواجدها الإحتلالي في سورية, وإعتمادها على قواتها العسكرية وقواعدها وتنظيماتها الإنفصالية والإرهابية, لإستهداف أي تواصل بري بين سورية والعراق, وقطعه بشكل نهائي.
يبدو من الواضح, إن الهدف الأساسي لهذا المشروع، هو محاصرة الصين, ولجم توسيع نفوذها السياسي والإقتصادي, بالإضافة إلى عزل روسيا وإيران وسورية, وهي الدول التي تتصدر مواجهة النظام الأحادي, وتسعى إلى إرساء أسس وقواعد النظام متعدد القطبية, وعليه فمشروع الممر الهندي يكشف أوراق واشنطن الساعية للدفاع عن نظامها الأحادي المتوحش وعن تفردها وهيمنتها.
ومن المهم الإشارة إلى أن مشروع الممر الهندي, يحتاج الكثير من الوقت والإمكانات المالية الباهظة, وإلى البنى التحتية, ووسائل الربط البري والبحري وإلى شبكات السكك الحديدية ...إلخ, ليكون واقعياً وقابلاً للتفعيل, مقارنةً بمشروع الحزام والطريق الصيني, والذي يعتبر من أقدم طرق التجارة المعروفة بطريق الحرير التاريخي, والذي يملك الكثير من البنى الجاهزة, وتلك التي أنجزتها الصين منذ إعلانها عن المشروع عام 2013.
في الحقيقة, يمكن تشبيه الممر الهندي بمشروع خطوط أنابيب نابوكو الموجود على خرائطه, لكنه لم ير النور حتى اليوم , على الرغم من أنه يصارع للبقاء, ومع ذلك حاولت الولايات المتحدة استخدامه لمحاربة الخطوط والأنابيب الروسية الممدودة والموضوعة في الخدمة فعلياً.
يبدو أن الإستياء الأمريكي والإسرائيلي, تزامن بالإستياء الأردني – العربي, ودفع الأردن والعرب للخروج عن صمتهم, لتبرير "بردوهم" بعد الإندفاعة للعودة إلى دمشق وتطبيع العلاقات معها, وفق المبادرة الأردنية, منذ أن أعلنت واشنطن عدم موافقتها على التطبيع مع دمشق, وبالرغم من ذلك , كسر العاهل الأردني صمته وبلاده, ولم ينتظر عودته إلى عمّان, واستغل كلمة بلاده على منبر الجمعية العمومية للأمم المتحدة, لتسجيل مواقف سياسية أرفقها بتساؤلات غير معهودة ما بين الأشقاء, رأى فيها البعض إطلاق إنذاراً مبطناً للدولة السورية, بما يخدم تقديم مبررات لما قد يقدم عليه الأردن بضغطٍ أمريكي في الجنوب السوري, في وقتٍ أتى فيه التبرير الأردني من بوابة الحديث عن المخدرات وتدفق اللاجئين.
كذلك تحدث رئيس الوزراء الأردني عن الأجوبة التي لم تصلهم بعد من سورية في إطار الرد على بعض نقاط المبادرة الأردنية, وأطلق وزير الإعلام الأردني السابق إتهاماته بحق سورية وانضم بذلك إلى أصوات النشاذ في الحراك المشبوه في السويداء, وسط إطلاق عنان عدد من الماكينات الإعلامية السورية "المعارضة" الناطقة بلسان مشغليها ومموليها وداعميها, للتطاول على سورية وتشويه مضمون الزيارة, وتفريغها من جوهرها, واستهداف نتائجها حتى قبل أن تتم الزيارة وقبل عقد القمة, وركزت تلك الحملات على بث روح اليأس حيال نتائج القمة والاّمال المعقودة عليها, ونسف رمزيتها, ومدلولاتها الإقتصادية والجيو سياسية, بالإضافة إلى تركيز التصويب على عبارة "أن الأسد لن يقدم شيئاً للعرب".
كم يبدو مستغرباً صمت الأردن ومن خلفه بعض العرب عدة أشهر, حتى كاد العالم ينسى موضوع المبادرة, واليوم يعلنون استيائهم من إنتظار الرد السوري المعروف أصلاً, مقابل عودتها إلى محيطها العربي, فمواقف دمشق كانت وستبقى ترفض توقيع سلامٍ يكون جوهره الإستسلام للعدو الإسرائيلي, ولن تقبل بالتطبيع, ولن تتخلى عن حقوقها بإستعادة الجولان السوري المحتل, ولن تتخل عن القضية الفلسطينية, ولا زالت حتى اليوم تخوض أشرس المعارك للدفاع عن وحدة أرضها وشعبها وهويتها الوطنية والقومية العربية, وسط حروب الهوية التي تُشن عليها.
لم يتوقف مخطط استهداف الزيارة والقمة, فكما حدث قبلها استمر أثناء إنعقادها وما بعدها, حيث خرج وزير الخارجية القطري ليكرر أسطوانته البائدة, وبأن "الحل السياسي هو الطريقة الوحيدة ووفق جنيف1 والقرار 2254", وبدأت الولايات المتحدة تطل برأسها شيئاً فشيئاً, وبدأت وسائل الإعلام تتحدث بصيغة "نقلاً عن مسؤول في الإدارة الأمريكية", إلى أن ظهرت مساعدة وزير الخارجية الأميركية "باربرا ليف"، وأعلنت ما تداولته الأدوات من قبلها, بأن "الرئيس الأسد لم يقدم شيئاً للدول العربية "، وأن "التطبيع معه لن يغير الأحوال في سورية", كذلك أدان رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الأميركي مايكل مكول، استقبال الصين للرئيس السوري، وفعل مثله عضو مجلس النواب الأمريكي جو ويلسون، ناهيك عما نشرته صحيفة "ذا ناشيونال" نقلاً عن مسؤول أمريكي, بأن الولايات المتحدة "ستواصل فرض العقوبات الصارمة ضد دمشق، بغض النظر عن أي صفقات", تبعه مسؤول اّخر في مجلس الأمن القومي الأمريكي وأكد أن المساعدات الصينية لسورية "لن تتحقق ما دامت عقوباتنا قائمة" , وتختم الـ "نيويورك تايمز" المسرحيات الإستعراضية الأمريكية بالحديث عن "سبب زيارة الأسد للصين هو الحصول دعمها في إعمار سوريا, وبأنه الأمر الذي ترفضه الولايات المتحدة وعدد من الدول الغربية دون تسوية سياسية كما نص عليها قرار الأمم المتحدة" (القرار2254).
من الواضح اليوم أن سورية والصين هما بصدد جني ثمار ما تم زراعته على مدى 67عاماً من العلاقات الثنائية المميزة, بين البلدين والشعبين, اللذان يجمع بينهما احترام الصداقة والعلاقات التاريخية والإنسانية, والحرص على سيادة القانون والأمن والسلام الدولي.
رحبت سورية بصداقتها وعلاقاتها المميزة مع الدولة الصينية الشقيقة والحليفة, وبإنتقالها إلى مرتبة العلاقات الإستراتيجية, وسط قناعتها بأن الدعم الصيني سيشكل رد الفعل الطبيعي المساوي والموازي والمعاكس بالإتجاه للقوة والضغوط الأمريكية, وسيكون داعماً للتوازن الجيو سياسي السوري, الذي بدوره سيساهم في إستعادة توازن الإقليم والمنطقة, كما سيشكل منعطفاً في مسار الشرق الأوسط والعالم بأسره, بفضل الدور والموقع الإستراتيجي الذي تحتله سورية, وبما تمثله الصين من دور محوري في المنظومة الدولية الجديدة الناشئة, القادرة على تغيير وجه العالم.