كتب الدكتور علي حجازي: --- حيتان --- قصّة قصيرة
ثقافة
كتب الدكتور علي حجازي: --- حيتان --- قصّة قصيرة
د. علي حجازي
5 تشرين الأول 2023 , 19:05 م

كتب الدكتور علي حجازي: 

◦ الأحياء البعيدة من مدينة غابستان تلفّها العتمة الشديدة ، والأنين الصادر من حناجر نديّة وغير نديّة يخترق الأجواء ، وأصوات تلاطم الأمعاء الخاوية تصطدم بأسوار وسط المدينة التي لا تنام ، لأنّ المسرح الذي يحتضن ذلك الحفل الغنائي الساهر واسع جدّاً. والأضواء المتعدّدة تنيره بشكل لافت، والدخان المصطنع المنبعث من آلات خاصة يلتفّ خطوطاً ودوائر تلتف على أجساد الراقصين والراقصات ، المبتهجين والمبتهجات ، والموسيقى الصاخبة تخترق المكان ، وتمتدّ ألسنتها إلى أماكن بعيدة.

سفينة الاستكشاف تجوب مياه البحر بحثاً عن سبب انتحار بعض الحيتان (الأزرق منها بشكل خاص ).

قبطانها والمساعدون منشغلون بحركة أيِّ حوت يجول في الماء، ويتابعون عبر شاشة التلفاز وقائع ذلك الحفل الساهر المشتعل باللَّذاذات.

توقّفتِ الموسيقى الصاخبة فجأة لدى رؤية ذلك الحدث الفريد ، حدث إسراع ذلك المندحق البطن ، والشبيه بحامل في شهر حملها الأخير ، إلى وسط حلبة الرقص الجماعي، بربطة عنق رسميّة .

منتشياً كان ، رأسه يدور من طرب، أدنى المذياع من فمه وشرع يغني:

"سواح في البلاد سواح".

الأجساد تتمايل على إيقاع تلك الصنوج الباعثة في الموسيقى حرارة مميّزة .

فجأة صرخ. بصوت منكر صرخ. سقط المذياع من يده ، فحُمِلَ، وعلى ماكينة فحص الأشعَّة طُرِحَ.

- انفجار في الزائدة الدوديّة . هيّا إلى الجراحة (قال طبيب الأشعّة).

قبطان السفينة يتابع مجريات الأحداث باهتمام بالغ، عبر شاشة التلفاز التي انشغل مسؤولوها ببثّ الوقائع مباشرة، وباندفاع كبير .

سقط المبضع من يد الجرّاح الذي فتح بطنه ، فالمفاجاة عظيمة. كراتين الإعاشات اندلقلت إلى الأرض مترافقة مع ذلك الصوت الجنائزيّ الذي أحدثته علب حليب الأطفال وهي تسقط فتتعانق مع علب الدواء ، وعبوّات المياه الصغيرة والكبيرة على السواء ، وأكياس النايلون العديدة التي لا تزال تحمل عبارة "هبة". لوازم النوم مكتوب عليها هدية إلى المهجرين من بيوتهم بسبب النيران التي أكلت أحياء تلك المدينة ذات صيف لاهب.

كميّات كبيرة من العملة الخضراء تكدّست فلوّنت المتراكمات في بطنه بلونها؛ عندها صرخ الجرّاح :

-ما هذا ، إنّه حوت أخضر ابتلع هذه العملة الخضراء التي لوّنت هذه الموجودات بلونها .

القبطان ومرافقوه يسرعون لإنقاذ ذلك الحوت الذي رفض تلك المعونة بعناد بادٍ تسبّب بفشلهم ، فوقفوا عاجزين أمام إصراره على الانتحار.

الطبيب الذي فتح بطن الحوت ، وعثر فيها على كميّات زائدة من الحبّار والسمك صاح:

-رحماك يا ربّ . من أجل التقام الحوت كمية زائدة من الطعام ذرف دموعاً غزيرة وانتحر .

في المشفى ، استأصل الجرّاح الزائدة الدوديّة التي انفجرت بعدما شاهدت هذه الموجودات تدوخ في بطن المندحق البطن خلال الغناء، والتمايل الشديد .

صالون المشفى المخصّص لربطات العنق الرسميّة وغير الرسميّة تعجّ بأولئك الخائفين على صحة الحوت الأخضر ذاك . ومراسلو قنوات التلفاز ينقلون الأخبار العاجلة: أخبار هذا الحوت باهتمام منقطع النظير، وتكاد الدموع تقفز من عيونهم الزجاجيّة حزناً على المصاب الأليم الذي حلّ به .

صوت مدير المشفى الذي طلب كنس الأرض على عجل، وإخفاء تلك الموجودات الخضراء في بطن الحوت مسموع على الرغم من محاولة إخفائه .

أمسك القبطان رأسه بيده وشرع يردّد :

يا ألله الطف بأبناء البرّ ، فعدالةُ البحر أنصع ، ربّما ، فحيتان البحر أرأف من ذلك الحوت الطروب المتغوّل الذي فتك بأسماك المدينة الصغيرة .

ردّد القبطان ذلك مرّات ، وبعدما ساءه رؤية الانهماك الكبير الذي أبداه أطباء المشفى والممرّضون خلال سعيهم الحثيث إلى إنقاذ روح ذلك الحوت ، أدار محرّك سفينته ، وراح يبتعد عن تلك المدينة بسرعة فائقة وهو يبتهل إلى الله:

-.رحماك يا ربّ ...رحماك يا ربّ ...

قبريخا- جبل عامل

د.علي حجازي

المصدر: موقع إضاءات الإخباري