قصور في فهم الحركة الجوهرية ودورها في التكامل
مقالات
قصور في فهم الحركة الجوهرية ودورها في التكامل
د.عامر الربيعي
14 تشرين الأول 2023 , 02:39 ص



الحركة وعوامل الجذب ،ركيزة يقف عليها الانهيار المحتم لاسرائيل الذي اصبح واقعا يترجم يوميا من خلال الحركة الجوهرية التي تساهم في تكامل الجنس البشري وفق منظومة معينة . 


بأن يكون التفسير المادي غالبا في كل جوانب الحياة في العصر الحديث ليس بالامر المستغرب ، ولذلك اسبابه واسسه المبنية على تنظير معرفي وفلسفي فصلت بين جانبي الانسان المادي ( الجسم) من جهة ، وبين جانبه المعنوي والخلقي من جهة اخرى .


الجانب المعنوي والخلقي المدفوع تطبيقا من خلال الحركة الجوهرية النابعة من عالم ما وراء الطبيعة ، تساهم في تكامل الانسان، هذا الجانب تم تغييبه من توجيه حركة الانسان على ارض الواقع . السبب في ذلك ان هناك شروط معينة تضبط الحركة لكي لا ينحرف فيها الانسان نحو الافراط والتفريط . 


اذن اللجوء في عالم الوجود وتفسير الكون وفق رؤية مادية هو في حد ذاته يشير الى القصور في الحركة على ارض الواقع ، وان طال امد هذه الحركة ، الا انها في نهاية المطاف تصل الى نتائج حتمية ، وخاصة وان عملاق المادة ( باختلاف مسمياته ) كما يقول محمد باقر الصدر ( نرى عملاق المادة يغزو ويحارب ويقيد ويقتل ويكبل ويستعمر ويستثمر ارضاءا للشهوات وإشباعًا للرغبات) ، وصل الى مرحلة تاسيس الدولة بمنهجها الحامل لتلك الصفات،ليصبح السؤال عن المولد والمستثمر لحركة هذا الجانب ، ومن هو جوهر حركتهم ؟ هل هي المادة فقط ، اذا كان الامر كذلك لماذا تعود العقيدة الى الساحة الدولية كاحد عوامل التغيير الاجتماعي ؟ 

مسرح عالمي مضطرب من حركة عوامل الفكر المادي ، توزعت بين عوامل جيوسياسية ، جيواقتصادية ، وجيوعقائدية . 

من ابرز الامثلة على هذا الاضطراب هي تاسيس الكيان الصهيوني الحامل لهذه الابعاد الثلاثة في فلسطين من اقليم المشرق العربي ،وقاريا غرب اسيا ، مرتكز عقائدي بامتياز ، مع تحكم جيوسياسي وجيواستراتيجي .


بان يتم استدعاء بقعة جغرافية -فلسطين-ذات جذور تاريخية عقائدية ، لتلعب دورا في الساحة الدولية الحديثة ، ويعلق عليها حق شعب معين من شعوب الارض ، هي في حد ذاتها خطوة تشهد لسيادة العامل العقائدي


ولناخذ قضية فلسطين من عدة ابعاد ، اولها العامل العقائدي ، بما ان فلسطين احدى دول الوطن العربي الكبير ، ينطق شعبها اللغة العربية ، لغة القران الكريم ، يقودنا ذلك الى توثيق بعض النصوص القرانية التي تشير الى قدسية بيت المقدس باعتباره القبلة الاولى للمسلمين، نصوص قرانية تثبت حادثة الاسراء والمعراج وحائط البراق.


الاهم في هذا الجانب نصوص قرانية عديدة تحدثت عن اليهود وتاريخهم مع انبيائهم ، وصراع هذه الاقوام ( اليهود)مع غيرها من شعوب المنطقة فتدعي حقها التاريخي لهذه الارض على حسابهم متذرعين بعقيدتهم ، ومن ان هذه البقعة الجغرافية ارض الميعاد وعدوا بها ، النصوص القرانية التي ذكرت اليهود حملت عدة معاني وحمالة اوجه متعددة، لكنها بمجملها تشير في نهاية المطاف الى قدر محتوم يحكم هذه الاقوام ، التي اختارت ان تفسر مفهوم الحركة المناط بها دون ان تلتزم بشروط التكامل ، وانما تحركت وفق اسس هي ركبتها واندفعت لتطبيقها وفق معاني لاخلاق وقيم طارئة تحكمها الضرورة ، والامثلة لليهودية في النصوص القرانية عديدة كبلعم بن باعورا ، السامري ، قارون ، هامان ، قصور في فهم الضوابط بين الجانب المعنوي وعلاقته بالحركة الجوهرية ، وهذا بالتالي قاد هولاء الى الفشل على الرغم من امتلاك بعضهم العلم والمال.


تاصيل تاريخي لمفهوم الحركة الذي يتحرك به الكيان ، هو نفسه اليوم يقود دولتهم الى السقوط والانهيار . لانها تسير وفق مفاهيم وقيم الانحطاط والسقوط، ( فارسلنا عبادا لنا اولوا باس شديد فجاسوا خلال الديار .. ) نهاية تناسب توجهاتهم الفكرية … 


اما الجانب الجيوسياسي ، فهو كيان ولد من رحم النظام الديمقراطي الغربي ، وبمباركة منه ، تولدت حركة هذا الكيان السياسية على ارض الواقع ، بدءًا من اجتماع الحركة الصهيونية في بازل ، الى وعد بلفور ، فاعلان الدولة عام 1948, وصولا الى اعلانه الحرب ضد الدول العربية ، ومن جراء هذه الحروب اقتطع اراض من كل الدول العربية المحيطة به ( دول الطوق) ، واعتدى على مقدرات القوة لمعظم الدول العربية الاخرى ، تحت غطاء الاتحاد المضطرب بين شعب حمل العقيدة الصهيونية ، وبين حركة العملاق المادي ممثلا بالعالم الغربي ، حركة الغت من ضمير هذه الشعوب الجانب المعنوي ، فلا مكان لها في التعالي ، وانما حركة دائرية في عالم المادة . 

من رحم هذه الحركة الدائرية ولد التطبيع ،كاحد الاسلحة الدفاعية الناعمة لتخدير المقابل الذي اصبح يعيش في جغرافيا مأزومة ، بحيث اصبحت الانظمة السياسية والاجتماعية لهذه البلاد تدور في فلك ازمات يخلقها هذا الكيان ، ولم يعد من اولوياتها احكام قبضتها على كامل اراضيها، او البحث عن التنمية المستدامة ، او الاستقرار السياسي والاقتصادي او الصناعي ، اوبناء الانسان الواعي ، وانما اصبح هدفهم تعبيد طريق بلادهم امام مشروع حركة المذهب المادي الذي يستند ديمومته من خلال قوانينه التي تنشأ عالما مصغرا من الفوضى الخلاقة اينما يحل في البلاد المستهدفة.


اما الجانب الجيو اقتصادي ، فهو مصطلح قائم على الاستحواذ الجغرافي لاجل الاستثمار وتراكم راس المال ، ولاجل القيام بهذه الخطوة ، لا بد من ضغط سياسي لراس مال كبير يفتح اراضي البلاد ليستقر بين ظهرانيها ، وهذا منشأ الكيان الصهيوني من الناحية الجيو اقتصادية، اغداق راس مال مستمر منذ النشوء والى الان من قبل عملاق المادة ، يمده بالحياة ماديا ، لكنه يسقطه اخلاقيا ، ويلغيه معنويا ، فلم يبقى من جوهر الحركة المتعالية لديه شيء ، فيتلاشى ليسارع خطاه نحو الانهيار … فلا يسرف في القتل .


وجود الكيان الصهيوني مرهون بمحيط بنقاط ارتكاز تقوم على قلق المحيط ، هذه القاعدة كانت الى وقت قريب متحكمة في الساحة الدولية القائمة على الاحادية القطبية ، لكن اليوم مع معالم تغير موازين القوى العالمي ، وانتقال العالم الى عالم متعدد الاقطاب ، وظهور قوى تمثل كل واحدة منها مجموعة من الجوانب القوة العقائدية ، المالية ، الاقتصادية ، الصناعية ، كل منها تدور ضمن منظومة فكرية - وان كان بعضا منها ماديا- الا انها بعيدة عن النظام الراسمالي. 


هذا ان دل على شيء فهو يدل الى مراحل الافول العقائدي كمرتكز قامت باستثماره المنظومة الراسمالية ، ولم تعد الازمات تصدر الى المحيط العربي ، وانما انفجرت الازمة في فلسطين ، وولدت ازمات للكيان الصهيوني ، منها ازمات تاسيسية كالهوية ، والانتماء للوطن ، وخفت بريقها عند شعب الكيان الصهيوني ، وتصاعده عند الشعب الفلسطيني ، يرافق ذلك انهيار اقتصادي اصاب قطاعات متعددة في دولة الكيان . ( فهم يالمون كما تالمون).



كم الازمات التي خلفها النظام العالمي الاحادي ، وما عانته دول العالم من تداعيات بقاءه الدموية ، اثقلت كاهل العديد من الدول ورمى بها الى فوضى الفقر والعجز والتضخم ، ليبرز عامل اخر يضاف الى العوامل الاخرى ، وهو عامل العدالة بفرعيها كمفهوم ذو حركة جوهرية تمثل الذات الصادرة عنه من جهة ، ومفهوم العدالة المطبق في الميدان الاجتماعي والاخفاق في ايجاد عوامل الانجذاب فيما بين الجانبين ، يعود سبب ذلك تناقض الحركة في الميدان الاجتماعي ، وهذا يقود الى الفشل في ايجاد العدالة الاجتماعية لقصور الرؤية في تفسير مفهوم العدالة ، وهي سلسلة مترابطة من الفشل والانحدار يمر بها النظام الراسمالي بادواته. 


كان للقضية الفلسطينية الدور الكبير في تصويب العدالة الدولية ، بحيث اصبحت ميزان للعدالة ، ورمز لحقوق الانسان ، واستطاع الشعب الفلسطيني ومن خلفه قوى المقاومة من اسقاط الترابط بين النظام العالمي الاحادي وايديولوجيته المادية الالحادي ، وليبقي على صورة الكيان الصهيوني دولة مارقة تصدر العنف والقبح ، والحركة التاريخية الغير اخلاقية بحركية مفاهيمها الغير عادلة ، نسق اصبح يعاني من ضربات موجعة وجهها الداخل الفلسطيني المقاوم ، وضعت الحجر بقوة في حركة النظام الراسمالي ، واسقط احد اوجه الثبات التاريخي القائم على الترابط بين المؤسسيين، الاصليين لهذا الكيان، بحيث تم تعريته من مقارنة نفسه مع غيره من مناهج الفكر الصاعدة في العالم . 


تخبط وفوضى ، وتعاطي غير اخلاقي ، وساحة حرب مفتوحة تتبع منهج الارض المحروقة ، من مميزات حركة الكيان الصهيوني ، الذي لم يستطع استيعاب انه خلال ساعات اصبح مهدد وجوديا ، وان ما بناة خلال 76 عاما ، كان برجا من الرمال تذروه الرياح الفلسطينية المقاومة . وان مشروع الدولة الذي اشترك في بناءه رؤوس النظام الراسمالي تاريخيا ، سقط خلال ساعات ، فمن المؤكد ان يكون نصيب قادة الكيان وحلفائهم الهستيريا على عدة صعد ، وفي مقدمتها كيفية ادارة الدولة ، وتخبط في توجيه حركتها ، التي لا تملك من حل للازمة غير القوة والعنف المفرط للتغطية على هذا الفشل المهين ، وهو يشير بنفس الوقت الى هشاشة الهياكل الراسمالية ، وتظهر كانها اداة طيعة للحركة الصهيونية الغير نظامية ، التي بدورها اصبحت تعاني من الدوران في فلك التاريخ من خلال عودتها الى المربع الاول و اعتمادها على قطعان المستوطنين المتطرفين وتوظيف المؤسسة العسكرية لخدمة هولاء ، وهو نسق يوازي الدولة ومؤسساتها ويخل بمرتكزاتها، وساهموا بشكل فاعل في وصول دولتهم الى هذه النتيجة. 


بالمقابل ظهرت القضية الفلسطينية اليوم من انها ايضا احد العوامل المؤسسة لاي نظام عالمي جديد ، فبعد ما حاولت امريكا خلق الازمات لطريق الحرير الصيني سواء من خلال تايوان وتحريضها ضد الصين ، او من خلال خلق الازمات في بلاد اواسط اسيا القواعد الاولية لانطلاق طريق الحرير ، او خلق الازمة الاوكرانية - الروسية كعامل ضاغط امام صعود قطب روسيا. 

اسقط الشعب الفلسطيني ، مشروع امريكا البديل عن حرير الصين ، واسقط صفقة القرن الامريكية من خلال تقديمه كاريكاتورية الدولة اليهودية ، نسق يعاني من افول بكل ادواته ومنها اسرائيل التي فقدت السيطرة تحت ضربات موجعة قامت بها فلسطين امام مرأى ومسمع العالم .


رئيس مركز الدراسات والبحوث الاستراتيجية العربية الأوربية في باريس

د.عامر الربيعي 

المصدر: إضاءات