حفل القرنان التاسع عشر والعشرين بنقاش واسع النطاق، في المجتمع الأوروبي، في ما يخص الوضع والمعالجة المناسبين لليهود في المجتمع، فقد اشتهرت وقتها الأزمة بمصطلح "المسألة اليهودية"، والتي يشار إليها أيضًا باسم "المشكلة اليهودية".
لم يستوعب هذا الغرب الديمقراطي وجود اليهود في مجتمعاته، وخاصة مع نزعة التحرر والسعي للتمايز عن المجتمع، ما جعله يفكر في طريقة لإخراج اليهود. وجرى ذلك بالتعاون مع الحركة الصهيونية التي استغلت الأوضاع لاغتصاب فلسطين وطنًا بديلًا، والذي لم يكن هو المقترح المباشر من الغرب الساعي لإبعادهم إلى أي بقعة أخرى.
كان اختيار فلسطين تحديدًا هو الخيار الاستعماري الأمثل من بريطانيا، والتي كانت تبحث عن نفوذ في إطار تنافسها الجيوسياسي مع فرنسا وروسيا، وهو استعمال لنظرية نابليون الذي استغل "المسألة اليهودية". فقد اعتمدت رؤية نابليون على إيقاف الهجرة اليهودية من الشرق إلى الغرب لكسب دعم شعوب أوروبا وتأييدهم، إذ كانوا يمتعضون من استمرار تلك الظاهرة ويرفضون وجود اليهود بينهم كونهم دخلاء عليهم.
كما يقول الراحل الكبير الاستاذ محمد حسنين هيكل إن نابليون قد عمل، في الوقت ذاته، على كسب دعم يهود العالم، والذين كان عددهم الإجمالي آنذاك 12 مليون يهودي، فعمل على استخدام ظاهرة "الوطنية" في إيقاظ وعي يهودي يلتقط فكرة "حق تقرير المصير"، ويطالب بوطن قومي لليهود ينقذهم من الشتات، ويريح أوروبا في الوقت نفسه من عبء موجات الهجرة من يهود الشرق.
اليوم؛ يمكننا أن نلمح استمرارًا لتلك الظاهرة، حيث التسابق الأمريكي الفرنسي والأوروبي عامة لدعم الكيان الصهيوني، للحصول على نفوذ في منطقة تشهد تنافسًا جيوسياسيًا ضخمًا، لا سيما بعد عودة روسيا لتأدية دور عالمي، وبروز الصين قطبًا واعدًا.
لو تأملنا التصريحات الأمريكية وربط ممارسات المقا.ومة بالنازية ومحاولة خلق تحالف عالمي ديمقراطي، يضمّ "اسرائيل"، في مقابل تحالف (الشر) المكوّن من حركات المقا.ومة وروسيا وكل معسكر مناهضة الاستعمار، فإننا نفطن إلى طبيعة المعركة الراهنة، ونتأكد من كونها معركة وجودية، خاصةً وأن النكبة ومجازرها حدثت برعاية القوى الكبرى وتحت سمع الأمم المتحدة وبصرها، والتي كانت منظمة وليدة بهدف إحلال السلام العالمي!
تاليًا؛ فإنّ الرهانات على القانون الدولي أو الغرب أو حلّ الدولتين، وكل هذه الأوهام، هي رهانات خائبة تضيع المزيد من الوقت وتعدّ شريكةً في دماء المزيد من الضحايا والشهداء على طريق القدس.
اللافت أن الغرب الجماعي ومعه دول عربية يناقشون الآن مسألة موازية، وهي "المسألة المقا.ومة"، حيث يبحثون عن حلّ للخلاص من المقا.ومة، ويستخدمون في ذلك أبشع الوسائل النازية من الدعايات والمجازر. واللافت، أيضًا، أن "المسألة الصهيونية" لم تعد تُطرح، في أوساط أمتنا رغم كونها مسألة استعمارية استيطانية؛ بل وصراعها مع شعوب المنطقة صراع وجودي.
إذ لمجرد انزعاج الغرب "الديمقراطي" من "نزعة اليهود التحرريّة"، قاموا بطردهم والخلاص منهم، واليوم يريدون من أمتنا القبول بالصهاينة ذوي النزعة التوسعية، وهم ليسوا مواطنين يهودًا من المواطنين الذين احتضنتهم شعوبنا، بل عصابات إجرامية لم تشبع من دماء الشيوخ والأطفال والنساء، وما تزال ترتكب جرائم الإبادة.
والتساؤل هنا عن دور النخب الثقافية العربية لتقارن بين "المسألة اليهودية، و"المسألة الصهيونية" وتناقض الغرب وكشف ازدواجيتهم.
أما على مستوى المقا.ومة وحركاتها، فالبوصلة واضحة، تعلن دومًا صراعها الوجودي مع الاستعمار وفي مقدمته الصهاينة، وهو صراع لا يتناقض وقيم المقاومة ونظرتها المتسامحة مع التنوعات الدينية والعرقية وخلو جعبة المقاومة من العنصرية والطائفية.
وسط المعركة الدائرة حاليا والتي تقدم بها البطولات والملاحم من حركات المقا.ومة، يجدر حتى بالنخب التي تشكو عجزها عن تقديم شيء للقضية، أن تطرح هذه المسائل الفكرية بقوة، خاصة وأن الفضاء الالكتروني في عصر وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن يشكل ضغطا هائلا على الصهاينة والأميركيين والغرب المنافق.
ربما يكون ذلك الطرح أكثر فائدة من السجالات في أمور تافهة والمزايدات على محور المقاومة واهدار الساعات في سب فنان هنا أو هناك لم يتضامن بشكل لائق مع القضية.
فلتقاوم النخب بما تملك من أدوات جنبًا إلى جنب مع رجال الله المجاهدين في الميادين.