في ظل تزايد أعداد اللاجئين والنازحين عبر العالم هرباً من أهوال الحروب من أوكرانيا إلى السودان وصولا إلى غزة وقبلها سوريا والعراق، أو بسبب التغيرات المناخية والكوارث الطبيعية، أصدرت الحكومة الباكستانية قرارات جديدة تستهدف الرعايا والمقيمين الاجانب ممن لا يمتلكون أوراق ثبوتية، تمهيدا لنقلهم إلى ٤٩ من مراكز الترحيل التي خصصت لهم قبل طردهم من البلاد بحلول تشرين الثاني/ نوفمبر.
خلافاً لذلك، فإن السطات الباكستانية تتحمل تبعات التطبيق غير المنضبط للقرار غير المنسجم مع القوانين والأعراف الدولية، إذ لا يمكن تفسير تصرفات حكومة إسلام آباد من الناحية الفنية سوى أنها انتهاك لمبدأ عدم الإعادة القسرية الذي يحظر على الدول طرد اللاجئين. ورغم أن باكستان لم توقع على اتفاقية عام 1951 وبروتوكول عام 1967 ذات العلاقة بوضع اللاجئين، إلا أن هذا الحكم ينطبق على الدول غير الأعضاء أيضاً إذ أنها مجبرة على الالتزام بمبدأ عدم الإعادة القسرية بغض النظر عن توقيعها للاتفاقية، حالها كحال كل الدول المستضيفة للاجئين، كلبنان والأردن وتركيا والدول الأوروبية. كما تعتبر الخطوة انتهاكا للاتفاقية الثلاثية الموقعة مع أفغانستان والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين لضمان العودة الآمنة للاجئين الأفغان.
طوابير وانتهاكات
تقدر مصادر عدة أعداد اللاجئين الأفغان في باكستان بنحو 1.7 مليون شخص، لكن الأرقام المسجلة وفقا للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين هي 1.33 مليون شخص، 427 ألف منهم مسجلين بصفة لاجئ لا يحملون أوراق إقامة رسمية في باكستان، جميعهم اليوم معرض لخطر الترحيل القسري أو الاعتقال مع تحديد الحكومة الباكستانية الأول من نوفمبر مهلة نهائية.
فمع بداية تشرين الثاني نوفمبر، بدأ تدفق اللاجئين إلى الحدود الأفغانية الباكستانية في شمال غرب باكستان، فقد غادر في الفترة ما بين 15 أيلول/سبتمبر و11 تشرين الثاني/ نوفمبر 327 ألف شخص خشية الاعتقال، كما عبرت آلاف الأسر منفذ طورخم، فيما تجمع الآلاف لأيام بانتظار إنهاء إجراءات العبور. وقالت الحكومة المحلية في ولاية ننجرهار المحاذية لباكستان في شرق أفغانستان، إن الحكومة المركزية في أفغانستان تتخذ كل ما من شأنه تقديم الخدمات اللازمة للعائدين من باكستان، غير أن تدفق اللاجئين بهذه الطريقة وإجبارهم على العودة بهذا العدد الهائل يفوق الوسائل والإمكانيات المتاحة لدى حكومة "طالبان".
مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك، قال منتصف نوفمبر الجاري، إنه يشعر بالقلق إزاء التقارير التي تفيد بأن الطرد التعسفي للمواطنين الأفغان من باكستان كان مصحوبا بانتهاكات، بما في ذلك سوء المعاملة، والاعتقال والاحتجاز التعسفيان، وتدمير الممتلكات والمتعلقات الشخصية، والابتزاز.
وتعد عملية الترحيل إلى المجهول وباتجاه دولة منكوبة مع بداية فصل الشتاء أول الانتهاكات المرتكبة بحق اللاجئين الأفغان، حيث تعاني أفغانستان بالأساس من أزمة إنسانية داخلية عقب الزلزال الذي وقع في غرب البلاد، في 10 أكتوبر الفائت، ووفقاً للبيان للخارجية الأمريكية، يحتاج 29 مليون أفغاني للمساعدات العاجلة، فضلاً عن وجود ما لا يقل عن 3.3 ملايين مشرد داخلياً جراء الكوارث الطبيعية الأخيرة والصراعات المسلحة، مما يجعل قرار الترحيل الباكستاني تحدياً صعباً لحكومة “طالبان”.
الانتهاك الآخر، يتعلق بإبلاغ مجلس اللاجئين الأفغان عن تخريب مخيمات اللاجئين على يد السلطات الباكستانية، بهدف إجبارهم على الرحيل، وكذلك تعمدها إبطاء إصدار التأشيرات، أو طلب رشاوي للإفراج عمن يملكون إثباتات إقامة سارية المفعول، ولم يكن مسلسل الانتهاكات هذا جديداً، فاللاجئون الأفغان يواجهون صعوبات كبيرة بالحصول على حسابات مصرفية ومساكن مستأجرة، ما عرض كثيرين منهم للاستغلال أو المضايقات من قبل أجهزة الدولة.
أوراق ثبوتية أم أبعاد جيوسياسية؟
القرار الذي عده مراقبون استهداف للوجود الأفغاني على الأراضي الباكستانية، تشير حكومة إسلام ان له يهدف للتخفيف من التداعيات الاقتصادية والامنية لهذا الوجود الذي ينعكس سلبا على أمنها القومي.
فمن جهة تحاول حكومة إسلام أباد تصوير مسألة الترحيل القسري، كأزمة لجوء غير قانوني تترك تداعيات اقتصادية سلبية، حيث تواجه باكستان أزمة اقتصادية مزمنة وصل فيها معدل التضخم إلى 27.4% على أساس سنوي، وانخفضت قيمة عملتها المحلية "الروبية" بشكل دفع الدولار لتجاوز حاجز 300 روبية، الأمر الذي يجعل وجود ملايين اللاجئين عبئاً على ميزانية الدولة، وتداعيات امنية من توريط اللاجئين الأفغان بأعمال إرهابية، حيث تسوق حكومة إسلام أباد رواية تزعم فيها استغلال اللاجئين في أعمال غير قانونية، وبرزت تلك الرواية إلى العلن بعد التحقق والتأكد من تورط اللاجئين الأفغان في 14 هجوماً انتحارياً من أصل 24 وقعت خلال العام الجاري.
ومن اخرى تؤشر إلى دوافع سياسية تقف خلف أزمة الترحيل، كمحاولة للضغط على حركة طالبان اعتراضا على مسار الحركة في التعامل مع الولايات المتحدة والشرق الأوسط والهند وكذلك دعمها لـ "طالبان باكستان"، حيث يبرز الدافع الأمني والجيوسياسي كأكثر العوامل المتحكمة بقرار الحكومة الباكستانية واندفاعها لتسريع وتيرة الترحيل، بهدف استخدامها كورقة ضغط ضد حكومة طالبان في كابول، والتي تتهمها إسلام أباد بتقديم العون لـ "طالبان باكستان" لتهديد الحكومة الباكستانية وتسهيل حصول الحركة على بعض الأسلحة المتطورة التي تركتها القوات الأمريكية عقب انسحابها عام 2021،
البعد الآخر، تمثل بقلق باكستان من تنامي نفوذ طالبان في المنطقة الآسيوية الوسطى بما يضر بمصالح إسلام آباد، خصوصاً بعد تطبيع العلاقات بين الهند والحكومة الأفغانية. ومن المنظور الجيوسياسي، فإن تصرفات باكستان موجهة نحو الضغط على قيادة طالبان، التي تغرد في سرب مصالحها بعيداً عن مواءمة الرؤى مع باكستان الراغبة في استغلال الأهمية الجيوسياسية لأفغانستان اقتصادياً، لمزاحمة عدوتها الهند التي يتسع نفوذها أكثر فأكثر في أفغانستان.
اتخذت العلاقة بين نيودلهي وطالبان في كابول منحا تصاعديا بشكل متسارع نهاية عام 2022، مع إدراك الحكومة الهندية لمخاطر اتساع النفوذ الباكستاني في أفغانستان التي تشكل لها مجالاً حيوياً هاماً تزاحمها عليه كل من باكستان والصين وروسيا وإيران، ما دفعها لمقاربة مختلفة في علاقاتها مع كابول طالبان عقب أزمة الانسحاب الأمريكي، حينذاك أخرجت الهند نفسها من مشهد أفغانستان الجديدة بعد وصول طالبان إلى السلطة، وسرعان ما أعادت فتح قنوات التواصل لترتيب أوراقها من جديد ومنافسة الأدوار الرئيسية التي تلعبها باكستان والصين في الملف الأفغاني.
وكنتيجة لتلك الدوافع، تبدو أزمة اللاجئين المفتعلة تلك بمثابة محاولة لإجبار حكومة طالبان على عدم الذهاب بعيداً في فتح المجال أمام الهند، لاستخدام طرق التجارة الأفغانية أو الاستفادة من الاستثمارات الداخلية، وللمحافظة على النفوذ الباكستاني في الدولة الجارة ذات الأهمية العالية وسط القارة، بعيداً عن مزاحمة الدول الكبرى التي لا تخفي رغبتها ببناء علاقات جيدة مع حكومة طالبان، بهدف تمرير مصالحها لاسيما الصين والهند.