سِلاحُها كان حجرًا بيد مقاوم فلسطينيّ، انتشرت في كافّة الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، ومعروفةٌ برمزها الأوّل: "الحجارة"، بعد أن تبنّاها الشعب الفلسطينيّ تحتَ رايةٍ واحدة: "الانتفاضة".. إنّها الانتفاضة الفلسطينيّةُ الأولى، شرارةُ النّضال الّتي تغذّى بها الفلسطينيُّ منذ ولادته، وها هي ذكراها تحتلّ رأس العدوّ المذهول بقوّة اليد الّتي انتقلت من حمل الحجارة إلى حمل العبوات الناسفة ورميها على جبروت دبّاباتهم.. من مسافة صفر!
انطلقت الشرارة في الثّامن من كانون الأوّل/ديسمبر عام 1987، بعد أن دهست شاحنة إسرائيليّة أربعة عمّال فلسطينيّين قُرب حاجز "إيريز" شمال قطاع غزّة، فاستُشهدوا على الفور. طلعت شمس صباح اليوم التّالي على الفلسطينيين نورًا يشعّ من قلب ثورةٍ لا تنطفئ، فاندلع بركان غضبٍ في غزّة، أدركت حِمَمُهُ جبروتَ الاحتلال "الوهميّ"، ثمّ بدأ صدى الصرخات يظهر في الضفة الغربية مدنًا وقرًى ومخيّمات، إذ خرج الفلسطينيون في مسيراتٍ حاشدة، وبدأوا برميِ الحجارة على جنود الاحتلال؛ فقتل "السلاح" الإسرائيليّ طالبًا؛ وأصاب العشرات.
استمرّت الانتفاضةُ سنوات، استخدم خلالها العدوّ أعتى أسلحته، مقابل السلاح العظيم لدى الشعب الفلسطيني: "الحجر"، انتقالًا إلى السكين والزجاجات الحارقة وصولًا إلى حرق الإطارات والإضراب العام. ومع استمرار ثورة الانتفاضة في قلوب الفلسطينيين، واستشهاد نحو ١٥٥٠ فلسطينيًّا خلالها، وتجاوز عدد الأسرى المئة ألف، وبتوقيع اتفاقية أوسلو بين حكومة الاحتلال ومنظمة التحرير الفلسطينية عام ١٩٩٣، توقفت الانتفاضة.
اليوم رأينا، جدوى "الانتفاضة" المستمرّة، وكيف تحوّل الحجر الصّغير إلى عبوّة ناسفة من مسافة صفر. اليوم أبصرنا، أنّ الانتفاضة "جدوى مستمرّة"، حتى تعود الأرض الفلسطينية من بحرها إلى نهرها، حُرّة! اليوم عرفنا، كيف تكبُر المقاومة في قلب أهلها، وتمتدّ خارقةً للحُدود، اليومَ أدركنا، أنّ القُدس احتُضنَت بأيادي عواصمِ العُروبة، وأنّ فلسطينَ في دمشقَ وفي صنعاء، في بغدادَ وفي بيروت؛ اليومَ صارتِ الحجارةُ سبيلًا سلكهُ فارس عودة، وتمسّك بهِ مُقاومونا على الجبهاتِ كافّة، واليوم، كما كلّ يوم، يكبر فينا اليقينُ بأنَّ العدوّ بكلّ ما يملك من قدراتٍ لوجستيّة، يحمل الجُبن في قلبه بلا مُنازع، لا لشيء سوى لافتقاده لروحيّة أبطالنا.
أبطالُنا هؤلاء، يموتون كي تحيا البِلاد؛ وينتزعونَ الأمان من قلبِ العدوّ الهمجيّ الّذي باتَ يُخفِتُ غيظ قلبه بقتل الأطفال؛ خائفٌ هُوَ، من طفلٍ يكبُرُ مُشبعًا بِالغضب والحُبّ، هذا الغضب الّذي يتشكّل سلاحًا في وجهِ مُحتلّ الأرض ومستعمِرها، والحُبّ الّذي يرتسم لونًا أحمرَ قانٍ فوق درب فلسطين. أقولُ هذا لأنّني أدركتُ، أنّ حجر عام ١٩٨٧، هو نفسه بقوّة حجر فارس عودة عام ٢٠٠٠، ونفسُهُ بقوّة العبوّة النّاسفة، وأنا هُنا لا أحكي عن قوّة الفعل، بل عن قوّة الرّوحيّة، وعن المقاومة كَفعلٍ وجوديّ. هذا الحجرُ سيكبر أكثر، حتّى يصير بندقيّةً أخيرةً يفرُّ من فُوّهتها آخر جنديٍّ إسرائيليٍّ "خائفٍ" من البِلاد!