بقلم: الأديبة أ. د. سناء الشّعلان (بنت نعيمة)/ الأردن
عندما نتحّدث عن "صوت الشّباب في الرّواية العربيّة"؛ فنحن بكلّ تأكيد لا نتحدّث فقط عن الرّوائيّ الذي قام بعمليّة الخلق السّرديّ المتولّد على الورق ليخرج هذا المنجز مكتوباً بما يشّكل جسد الرّواية، بل نحن لا بدّ أن ننظر إلى الأمر من زاوية الفضاء الزّمنيّ والمكانيّ، ومن زاوية مشهديّة المنجز الرّوائيّ، ومن زاوية المتلقّيّ القارئ، ومن زاوية الملتقّي النّاقد أو المتخصّص؛ فالرّؤية للرّواية من هذه الزّوايا تكشف مساحات هذا الصّوت الرّوائيّ الذي يكتبه الشّباب الرّوائيون غالباً في تجارب قد تكون الأولى لهم أحياناً، وقد تكون الأخيرة لهم كذلك، ويتلّقاها في الغالب الشّباب مثلهم، وتنال إعجابهم، أو لا تناله.
فيما يكون للنّقد نظرته الفاحصة تجاهها، وهي نظرة تتدرّج من الرّفض إلى التّحفظ إلى القبول إلى الإعجاب في كثير من الأحيان، دون أن نغفل أنّ الكثير من الأصوات الرّوائيّة حول قضايا الشّباب لم تصدر من شباب، بل صدرتْ من روائيين محترفين ومتمرّسين استطاعوا أن يعاينوا أزمات الشّباب في مجتمعاتهم، وأن يدرسوها بعمق، وأن يقدّموها للقارئ بكل جرأة ومصداقيّة ومرارة، وكثيراً منهم مَنْ حاول أن يضع حلولاً لها على الرّغم من أنّ وظيفة الرّواية هي التّجسيد والتّصوير وتسليط الضّوء لا إيجاد الحلول؛ فالأديب ليس مصلحاً، بل كاشفاً.
من هذا المنطلق نستطيع أن لا نحصر رواية الشّباب في سنّ المبتدئين منهم في هذا الشّأن إن كنّا ننطلق من النّظر إلى هذه الرّوايات من حيث الموضوع والفئات المستهدفة بها، لكن إن نظرنا إلى الأمر من زاوية التّجارب الجديدة للرّوائيين العرب الذين يدخلون هذا الغمار لا سيما عبر أعمالهم الأولى؛ فإنّنا نستطيع بسهولة أنّ نصف هذه التّجارب في الغالب بالتّخبّط في الشّكل والتّناول واللّغة إّلى حدّ قد يصل إلى الرّكاكة والتّفكك في التفاصيل البنائيّة والسّياقيّة واللّغويّة، بما يقدّم شكلاً سرديّاً ضعيفاً يشبه من صنعه، ويماثله في السّطحيّة والاندفاع وعدم التمّكن وضعف الأدوات والتّصميم على التّصدّي لهذا الفنّ الصّعب المتّأبّي بغية الشّهرة أو الحصول على الجوائز أو الاهتمام النّقديّ والمجتمعيّ، أو غيرها من الأسباب التي تضطلع بمهمّة أن تصنع عملاً روائيّاً ناجحاً.
هذا ملمح مهمّ يؤكّده عدد الرّوائيين العرب الشّباب الذين يصدرون رواياتهم الأولى في كلّ عام، كما تؤكّده إدارات الجوائز العربيّة في حقل الرّواية التي تحدّثنا عن أرقام ألفيّة من الرّوائيين الذين يقدّمون أعمالهم الرّوائيّة للجوائز في مشهد عجيب يعجّ بجيوش من الرّوائيين الذين يلهثون وراء الشّهرة والكسب المالي ليعودوا جميعهم بخفي حُنين، ولا يُكتب الفوز والنّجاح والشّهرة إلّا لأقلّ القليل منهم.
في هذا الصّدد تكون الجوائز العربيّة قد غذّت هذا السّعار الغريب في صفوف الشّباب الذين تجرّؤوا على خوض غمار فنّ الرّواية دون أدوات أو موهبة أو حرفيّة أو اقتدار، لا سيما في ظلّ نجاح بعض الأعمال الرّوائيّة الفاشلة، وتسليط الضّوء والاهتمام عليها لأسباب كثيرة ليس منها الإبداع والاقتدار والاستحقاق.
في المقابل نجد القلّة من الأقلام الرّوائيّة الشّابة التي انطلقتْ من موهبة حقيقيّة تُرهص باقتدار حقيقيّ بعد تغذيتها بالقراءة والاطّلاع والممارسة الحذرة الذّكيّة التي أنتجت بحقّ أعمالاً روائيّة تبشّر بمستقبل روائيّ متميّز لأصحابها إنْ ساروا على الدّرب ذاته بجديّة وإصرار.
في التّجارب الرّوائيّة جميعها للشّباب العربيّ، أكانتْ تجارب متميّزة كُتب لها الاشتهار والنّجاح وخلق بصمتها الخاصّة، أم كانتْ تجارب مترنّحة بين النّجاح والفشل، أم كانتْ تجارب فاشلة توارتْ في الظّلّ؛ فإنّها جميعاً قد انطلقتْ من رؤية خاصّة للشّباب وإدراك خاصّ بهم لواقعهم، كما سجّلتْ مشاكلهم ومعاناتهم وأفكارهم وأحلامهم ومعاناتهم، كذلك أظهرتْ تجاربهم وحيواتهم ومواقفهم الحياتيّة بغضّ النّظر عن حظوظهم من الفنيّة والإبداع والموهبة والقدرة على التّشكيل والبناء والتّناول، كما تجسّدتْ بكلّ وضوح معطيات واقعهم المتباين من حيث الظّروف والتّدافع والواقع المرير والتّحدّيات والإكراهات واللّغة والبيئة والمشاكل والحلول والبناء والتّشكيل، وهي بذلك -دون شكّ- قد أخذت أنساقاً لغويّة وأشكالاً بنائيّة ومحمولات متعدّدة تتناسب مع حيواتهم ومشكّلاتها وعناصرها؛ فظهرتْ صورة عنهم في كلّ شيء حتى في قدراتهم اللّغويّة والفكريّة والتّحليليّة، بل إنّها كشفتْ كذلك عن مكوناتهم النّفسيّة والعقليّة والإدراكيّة، وكانت الحاضنة الصّادقة والتّأريخ الدّقيق لمكنون ذواتهم وتجاربهم وأطوار حيواتهم.
هذا الأمر جعل الشّباب المهتم بالرّواية يُقبل على قراءة ما تنتجه أقلام الرّوائيين الشّباب انطلاقاً من فضولهم تجاه هذه التّجارب، لا سيما تلك التي طرحتْ قضاياهم بجرأة وصراحة، حتى لو فعلتْ ذلك بطريقة فجّة إلى حدّ الإسفاف، أو بطريقة غريبة حدّ الخروج أحياناً عن أنماط الرّواية التّقليديّة، بل أحياناً إلى حدّ الخروج عن العناصر الأساسيّة المكوّنة لفنّ الرّواية ما دامتْ تتعاطى مع أفكارهم ولغتهم اليوميّة وسياقاتهم الخاصّة وطروحاتهم المتباينة، إلى حدّ أنّ بعض التّجارب الرّوائيّة قد نالت إعجاب الشّباب المتلقّي على الرّغم من أنّها فاشلة فنيّاً؛ لأنّها ترضي جوانب ما عندهم، فروّجوا لها عبر وسائل التّواصل الإلكترونيّ، وصنعوا لها حضوراً وتسويقاً كبيراً في أوقات ما.
لكن في النّهاية سقطتْ هذه التّجارب جميعها في الظّلّ، وطواها النّسيان، كما طوى أسماء مَنْ كتبوها، شأنها شأن أيّ موضة شاذّة، تنفجر، ثم تستشري، ثم تموت؛ لأنّ هذه الرّوايات لم تحمل أسباب حياتها، إنّما عاشتْ قليلاً بسبب الصّدفة والتفاف بعض الأصوات حولها لاختراقها بعض التّابوات التي تلفت نظر الشّباب، ثم سرعان ما اندثرتْ دون بعث.
لكن الحياة بقيتْ من حظّ التّجارب الشّبابيّة النّاجحة فنيّاً وبنيويّاً ورؤيويّاً، وهي ذاتها التي لفتتْ نظر النّقّاد الذي توقّفوا عندها مليّاً بالدّراسة، كما هي ذاتها التي ستكون –دون شكّ- لبنات في المشهد الرّوائيّ العربيّ المعاصر على امتداد رقعة الذين يكتبون بالعربيّة من العرب وغير العرب لتوصيف مشهد روائيّ يعجّ بالتّجارب والأشكال والإصدارات التي كثرتْ إلى حدّ يُعجز أيّ دارس أو باحث أو ناقد أو متلقٍ عن أن يحيط به كاملاً.