كتب خضر رسلان
حرب الاستنزاف التي أصبحت نمطاً من أنماط الحروب التي يمكن لها ان تكون عاملاً حاسماً في رسم مسارات ونتائج الحروب هي نوع من الحروب التي يسعى من خلالها الطرف المستهدف في كسره وتقويض القوة العسكرية للقوة المهاجمة عبرَ استنزافِ مقدراته وتكبيده خسائر بشكل متقطع ومتواصل بما يساهم في تدميرِ معنويات جنوده بجرّهم إلى دائرةٍ مفرغة من المواجهات المتقطعة بما من شأنه أن يفقد حيوية الجنود وعدم الاستقرار على الجبهة ومن أبرز نماذجها معركة ستالين غراد خلال الحرب العالمية الثانية التي استدرج فيها الروس الجيش الألماني إلى مستنقع قاتل لتَنتهي معها معركة ستالين غراد بخسارة فادحة للألمان أرخت تاريخ بداية هزيمتهم.
من النماذج التاريخية التي يمكن الاستناد الى فاعليتها حرب الاستنزاف التي أطلقها الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر اثر نكسة العام 1967 بهدف حرمان «إسرائيل» من تعزيز مواقعها على الجبهات وتشتيت تركيز قواتها، وهذا ما أثمر تحقيق أولَ نصرٍ رمزي استعاد به العرب بعض كرامتهم بعد تكبيد العدو الإسرائيلي خسائر جسيمة اثر معركة الكرامة التي خاضتها فصائل المقاومة الفلسطينية على الجبهة الأردنية.
لا شك انّ الغطاء العلني والمضمر التي حظيت به الآلة العسكرية الصهيونية الوحشية التي فتكت ولا تزال بالأطفال والمدنيين في قطاع غزة، وذلك في إطار محاولة ترمي الى إزالة آثار عملية طوفان الأقصى وما نتج عنها من نتائج أرخت لتاريخ جديد أعادت فيه تثبيت اسم دولة فلسطين شعباً وقضية وضربت إسفينا قوياً في مشروع تشريع الكيان الصهيوني وفرضه كأمر واقع طبيعي في المنطقة فضلاً عن تهاوي مؤسساته الأمنية وضعف أجهزته الاستخبارية وتضعضع بنيته السياسية والاجتماعية وهذا ما رسم صورة سوداوية لديمومة الكيان واستمراريته الذي هبّ لنجدته من أوكله في حفظ مصالحه ونهب الثروات والمقدرات في مقدمتهم الولايات المتحدة الأميركية.
قرّر الأميركيون الهجوم البري على قطاع غزة رافعين شعارات الحكومة الصهيونية وفي مقدمها إطلاق سراح الأسرى فوراً والقضاء على مقاومة غزة سواء كانوا عسكريين أم سياسيين أم أدباء ومفكرين والهدف استئصال فكرة المقاومة.
في قراءة للواقع سواء في داخل فلسطين أو في الإقليم فإنّ حرب الاستنزاف التي قادته جبهات المقاومة وبشكل أساسي في غزة استطاعت رغم عمق الجراح والتضحيات الجسام تحقيق إنجازات وتؤسّس لاستشراف مستقبل مغاير لا يتماشى مع الرؤية والاستراتيجية الأميركية وهي على الشكل التالي:
1 ـ فلسطينياً: اختصر مراسل الشؤون العسكرية والأمن في صحيفة «يديعوت أحرونوت» يوسي يهوشع، ما تعيشه قوات الاحتلال المتوغلة في مستنقع غزة مؤكداً على انّ المعارك البرية تتجه لتكون حرب استنزاف تُكبّد الجيش «الإسرائيلي» خسائر فادحة بالجنود والعتاد والآليات داحضاً مزاعم سيطرة القوى المهاجمة على مناطق واسعة شمالي القطاع، حيث تثبت الوقائع نجاح القوى المدافعة التي تواجه القوات المتوغلة، في أن توقع قتلى وجرحى بصفوف الجنود بشكل يومي «وهذا يدلّ على انّ التحكم والسيطرة لدى المقاومة في غزة» عالٍ جداً ومما زاد الطين بلة وصعّب من عمليات التوغل، الاشتباك وجهاً لوجه، من المسافة صفر، ونصب الكمائن وزرع العبوات الناسفة وإلقاء المتفجرات، وهذا ما زاد من وتيرة إطلاق النيران الصديقة.
2 ـ إقليمياً: لا يمكن إغفال التخبّط الأميركي الصهيوني المتأتي من حرب الاستنزاف التي توسعت ميدانها وفق استراتيجية الإنهاك الخاضعة لموازين لا يستطيع التحكم بها إلا من أدرك قراءة مسارات الزمان والمكان والتي على أساسها تمّ اتخاذ قرارات فتح الجبهات التي تهدف الى الإشغال والمساندة والتي ساهمت في استنزاف العدو سواء كان ذلك على الجبهة الشمالية مع المقاومة الإسلامية في لبنان او في العمليات النوعية التي تشنّها المقاومة الإسلامية في العراق وسورية الى القرار الشجاع الذي أصاب قوة الردع الأميركية في مقتل بعد عجزها عن مواجهة القوات المسلحة اليمنية التي أصبح لها اليد العليا في إغلاق وفتح باب المندب هذا فضلاً عن كفّ يد الصهاينة عن الإبحار في مياهه.
«مع مرور الوقت، سيجد الأميركيون والصهاينة صعوبة في تجاهل الأثمان الباهظة التي يتكبّدوها، وسيزيد التشكيك لدى المجتمع الصهيوني في صعوبة تحقيق أهداف الحرب التي رفعوها، وأنّ المقاومة لا تظهر أيّ علامات على الضعف بل انها وبيئتها تزداد شراسة وقوة». وما رسالة القائد السنوار إلا تأكيد على انّ معركة الاستنزاف التي تقودها المقاومة مستمرة فيها وعنوانها الأول والأخير النصر وإطلاق الأسرى وفك الحصار وحماية المقدسات، وانّ غداً لناظره قريب.