اقصد هنا من يعمل ويجتهد في عالم الصحافة السلطة الرابعة صاحبة الجلالة وسط الحروب، وينسحب على المسموعات والمرئيات والمواقع الاكترونية. وقد يعتقل الصحفي أو يجرح أو يستشهد، ومثلي هنا الحربان المعاصرتان في أوكرانيا وغزة. ففي العملية/ الحرب الروسية الأوكرانية ومع (الناتو) بالوكالة منذ عام 2022 قتل من الطرفين الروسي والأوكراني مجموعة من المراسلين الصحفيين وجرح غيرهم، فمن الذين قتلوا (أندريا ميرونوف، ايغور فولوشين، أناتولي كليان، أندريه ستينين، أوليه زادونتشوك، دميترو لاتوكين، سيرجي نيكولاف - من الروس )، و(يفين ساكون، وبرنت رينو، وبييركوفشينوف من الأوكران). وقتل 97 صحفياً في حرب غزة 2023/ 2024 حسب مكتب الاعلام الحكومي هناك، منهم (شيرين أبو عاقلة، ومنتصر الصوان، وعبدالله درويش، وأدهم حسونه)، وضرب الصحفي الفلسطيني وائل الدحدوح مثلا شامخاً في الشجاعة والصبر لا تتحمله الجبال بعد فقدانه لمجموعة من عائلته وجرحه شخصياً.
ولهذا، فإن الصحفي لا يقل أهمية عن الجندي أو الفدائي أو المتطوع للقتال، والمسافة بينهما صفر. وشخصياً عملت صحفياً ميدانياً في عاصمتنا الأردنية عمان، وخضت تجربة العمل مراسلاً صحفياً نهايات الحرب العراقية – الإيرانية عام 1988، ونصحني وقتها سفيرنا الأردني هناك الباشا اللوزي بالسير خلف الصحفيين في ميدان المعركة لتفادي الألغام داخل الأراضي الإيرانية، وهو مثل متواضع بالمقارنة بما يقوم به الصحفيون اليوم في ميادين القتال الساخنة.
وما قادني للحديث بهكذا موضوع، هو توقيع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرسوماً جمهورياً بتاريخ 4 يناير 2024 يمنح الجنسية الروسية للمقاتلين الأجانب وعائلاتهم في صفوف الجيش الروسي مع تواصل العملية/ الحرب، خاصة بعد مواصلة الولايات المتحدة الأمريكية رفد الجبهتين الأوكرانية التي تمثل العاصمة " كييف "، وإسرائيل بملايين الدولارات بهدف ديمومة الحرب هنا وهناك. وهدف أمريكا بعد اقتياد الغرب خلفها تطويق روسيا ومنعها من النهوض اقتصاديا وعسكريا، وكان الرد الروسي على التوجه الأمريكي دقيقاً وحكيماً بتثبيت النصر المطلوب في ميدان المعركة، والذهاب لبناء عالم الأقطاب المتعددة بعد قناعتها بضرورة غروب أَحادية القطب المتغول على أركان العالم، والممارس للإزدواجية السياسية في العلن وفي السر بين حرب وأخرى وسط سعير الحرب الباردة وسباق التسلح. وهدف أمريكا بوقوفها الى جانب إسرائيل في غزة إعطاءها فرصة اضافية لتدمير البنية التحتية ليس لغزة فقط، ولكن لحماس وما تملكه من سلاح وأنفاق، وحتى استهداف ارادة التحرير، وهما، أي أمريكا وإسرائيل يعرفان مسبقاً بأن حماس حركة تحرر عربية فلسطينية وأيدولوجيا وينعتانها بالإرهاب لإحباطها، ولتصفية القضية الفلسطينية وطرح مشروع بديل يدور في الذهنيتين الأمريكية والإسرائيلية وبالتوافق ويروجان له عبر وزير الخارجية بلينكين في منطقتنا العربية في مقدمته مد أجنحة السلطة الوطنية الفلسطينية تجاه غزة. وثمة فرق بين تفسير رام الله وغزة للسلام أكيد.
ولقد أصبح مطلوباً من روسيا – بوتين الالتفات لأهمية انصاف الصحافة المحاربة وحتى خارج الحدود وبموضوعية الى جانب الجبهة الروسية العسكرية والسياسية والاقتصادية. والكلمة في فضاء الاتصال اليوم كما الرصاصة، عندما تنطلق لاتعود، وصداها وسط الرأي العام كبير، وكبير جداً. وروسيا اليوم بأمس الحاجة لإعلام قوي مكاشف بالحقائق ومواجه للفوبيا والرّهاب الروسي، وهو موجود وعامل نسبة وتناسب، والمتخصصون في مجال سياستها وعلى المستوى الدولي نادرون، وهم محترفون، ولا تستطيع صحيفة، أو قناة مسموعة أو مرئية أن تعمل من دونهم . وروسيا ليست دولة فقط بل قطباً عملاقاً وصل لمصطلح العظيم والعظمة والعظمى بجدارة، مساحة أكثر من 18 مليون كلم2، وتفوق نووي عسكري وسلمي، وتكنولوجيا ومنها الفضائية، وعلى مستوى السلاح التقليدي المتطور خارقاً للصوت، والبنية التحتية في كبريات المدن والعاصمة. والاعلام الخارجي أكثر سماعاً حتى من الاعلام الداخلي الروسي، والرأي العام ينصت للاعلام الخارجي وبعدة لغات. وأقطاب العالم تبحث عن الحقيقة وما وراءها من أكثر من مصدر الى جانب المصدر الرئيسي .
لست الوحيد المتخصص في الشأن السياسي الروسي والدولي عبر مجموعة من الكتب والعديد من المقالات التحليلية الهادفة والمكاشفة في الحقائق في زمن التضليل الإعلامي دولياً، لكن ما أكتبه واتحدث به مثلا عبر المسموعات والمرئيات أيضاً مهم، ويصنف بأنه عملة نادرة، ويهاجم في المقابل تحت مظلة التأثر بالإعلام الغربي المعادي. ولقد صرّح أدولف هتلر يوماً وسط حربه المجنونة على الاتحاد السوفيتي التي راح ضحيتها 28 مليون انسان؛ بأن عدوه الأول هو المذيع السوفيتي (كليفيتان) الذي أعلن بداية الهجوم النازي الهتلري بتاريخ 22/ يونيو/1941 عبر عملية وشيفرا باربروسا استخدمتها دول المحور بتحريك مليون جندي لاقتحام جبهة سوفيتية طولها 1000 مي
وفي حرب حزيران عام 1967 بعد مهاجمة الجيوش العربية لإسرائيل في زمن عبد الناصر أطلق الإعلامي المصري أحمد سعيد مقولته "اجوع يا سمك البحر سنلقي الصهاينة في البحر"، وهو ما أرعب إسرائيل وقتها رغم النتيجة الخاسرة بسبب عدم توازن القوى والاستخبار. وابّان غزو حلف الاطلسي بقيادة أمريكا عام 2003 وبمشاركة ايرانية للعراق في عهد الرئيس صدام حسين اشتهر اسم وزير الاعلام العراقي محمد سعيد الصحاف الذي وصف جنود الغزو الأمريكي والحلف بالعلوج، ولم يتمكن الغرب من ايجاد ترجمة للمصطلح حينها والذي يعني (الأوباش) أيضاً.
ليس كل صحفي أو اعلامي يستطيع وعن قناعة تفسير مسار العملية/ الحرب الروسية الأوكرانية ومع (الناتو) بالوكالة، فهي لدى الروس مجرد عملية خاصة تحريرية تحمل هدفاً دقيقاً وهو اجتثاث التطرف الأوكراني ومنه البنديري، وابعاد أوكرانيا عن مطامع أمريكا والغرب، وهي بالنسبة للغرب الأمريكي حرب بوجهين، احداهما مساعدة " كييف " في الدفاع عن سيادة أوكرانيا التي فقدتها عبر الحوار واتفاقية " مينسك "، وهو محض خداع . وحرص غربي وبولوندي على الإستمرار بتزويدها بالسلاح ومنه طائرات (F16)، وصواريخ بعيدة المدى، وفيه ضرب من الجنون، والوصول بالعاصمة "كييف" لمرحلة الانتحار والدمار، وهي وعواصم الغرب أيضا يعرفون بأنهم يجابهون ويماحكون قطب روسي عملاق أكبر من دولة. وشكلت حرب الغرب عبر " كييف" مثلا حالة استنزاف مالي لهم غير مسبوقة بلغ حجمها أكثر من مائتي مليار دولار والحبل على الجرار أمام حرب بلا نهاية.
وليس كل صحفي أو اعلامي يستطيع في المقابل تفسير مسار هبة وطوفان الأقصى من طرف حماس، والعدوان الإسرائيلي الكارثي المقابل على سكان قطاع غزة الذي ارتقى من وسطه الى السماء أكثر من 22 الف فلسطيني معظمهم من الاطفال وعن قصد. وفي جنوب لبنان حدث مرافق مجاور ومتزامن سقط فيه شهداء وصحفيين. فالشارع العربي متحد ومتفهم لمعادلة "الضغط يولد الانفجار" انسحبت على عملية حركة حماس "الأيدولوجيا" في السابع من أكتوبر بعدما طفح الكيل جراء التطاولات الإسرائيلية النازية على الأقصى وأهل فلسطين وبيوتهم، واعتقال وسجن العديدين منهم وبرقم تجاوز العشرة آلاف سجين، وجلهم تعرضوا ولا زالوا للتعذيب. وتفسير غربي يترجم التوجه الإسرائيلي، وينعت حماس بالذات بالارهاب وداعش، وهو أمر مشين. وسيبقى صوت أبو عبيدة والجنرال الدويري يصدح حدث غزة البطولي حتى تبزغ شمس النصر.