كتب م. ميشيل كلاغاصي
تبدو الهزيمة التي تعرض لها الرئيس رجب طيب إردوغان وحزب العدالة والتنمية في الإنتخابات البلدية, على الرغم من كونها الأولى منذ 22 عاماً, لكنها لم تكن مفاجئة, وهو الذي أكد قبل خوض المعركة كمهزوم مؤكداً أنها ستكون الأخيرة له كرئيس لحزب العدالة والتنمية، وبأنه "سيعتزل العمل السياسي", وبأنها "النهاية" بالنسبة له.
وبغض النظر عن الأسباب الحقيقية التي تقف وراء قرار إنهاء حياته السياسية, يرى البعض أن العمر والحالة الصحية والدستور, تجتمع لتشكل ثلاثية منعه من متابعة ما قد بدأه منذ عقود في الحقل الحزبي والسياسي وكرئيس للدولة التركية, في وقتٍ لطالما أثار فيه هو وحزبه الجدل والإعتراض على الدعوة لكتابة دستورٍ جديد للبلاد, وبما تحمله هذه الدعوة من خلفيات قد تسمح له بالترشح دائماً وأبداً.
على الرغم من النجاحات والإنجازات الداخلية التي حققها الرئيس إردوغان خلال العقد الأول لحكمه والتي غابت تماماً في السنوات اللاحقة, تراه لا ينفك ولا يمل الحديث عنها, وينسب فيها الفضل لسياسته وسيطرة حزب العدالة والتنمية على غالبية مفاصل الحكم والإدارة, لكن الواقع جاء ليشي بحقيقة أخرى, تمت ترجمتها اليوم في صناديق الإقتراع, وأظهرت تراجع نسب تأييدهم الشعبي, وحصولهم على 35.5 % من أصوات الناخبين, مقابل حصول حزب "الشعب الجمهوري" المعارض على 37.7 % , على الرغم من خوضه الإنتخابات بشكل منفرد وبدون تحالفات.
وبالفعل حصل ما توقعه إردوغان, وأتت النتائج بعكس ما تمناه وحزبه "العدالة والتنمية", واعتبر أنها شكلت "نقطة تحول" في تركيا, وبدا خاضعاً قانعاً, ولم يدافع عن الهزيمة ولم يبتكر التهم للاّخرين كعادته, وأعلن احترامه "قرار الأمة", في دلالة واضحة لقرائته المسبقة لتراجع حزبه العثماني الديني, أمام الأحزاب العلمانية "الكمالية" المتشددة والأحزاب القومية, وأمام الحركات والهيئات ومؤيدي تيارات الرأي المعاصر والموازي للأفكار السائدة في أوروبا وحول العالم, التي تتطلع إلى قضايا الديمقراطية والحريات وحقوق المرأة و"حقوق" المثليين, والباحثين عن وجه تركيا الأوروبي وتفضيله على وجهها العثماني الديني.
إن توصيف وتقييم إردوغان نتائج الانتخابات بـ "نقطة التحول", يبدو تعبيراً لطيفاً للغاية أمام حقيقة صفعه وطرد حزبه من العاصمة أنقرة ومن أهم المدن الكبرى كإزمير وأضنة وبورصة, ومن بعض المدن والمحافظات التي كانت تعرف بأنها معاقله التاريخية, لصالح حزب الشعب الجمهوري بزعامة أكرم إمام أوغلو, ما يدفع للتساؤل, هل كان الواقع المعيشي والإقتصادي هو الدافع الوحيد وراء منح الناخبين أصواتهم لخصوم إردوغان وحزبه, أم بدافع الإنتقام الشعبي لما اّلت إليه أوضاع البلاد الاقتصادية والمالية, ومجمل السياسات الداخلية والخارجية.
وفي خطاب ما بعد الهزيمة, أعلن إردوغان ضرورة قيام حزبه بدراسة النتائج وتحليل أسبابها, وهنا يطرح السؤال نفسه, هل يستطيع من أشعل الحرائق إطفائها ؟, هل سيكتشف حزب العدالة والتنمية أن تراجع شعبيته في عدد من البلديات أتى نتيجة عدم إهتمام الناخبين وخصوصاً فئة الشباب منهم , بمواقف إردوغان ونفاقه وخطاباته الدينية, الشعبوية, العاطفية, تجاه قضايا العالم الإسلامي وتحديداً تجاه القضية الفلسطينية, بالتوازي مع سياساته الداعمة للكيان الإسرائيلي, وسط ضجر الناخبين من سياسة الأرجحة التي دأب إردوغان على ممارستها منذ بداية الحرب الأوكرانية – الأطلسية الأوروبية على روسيا, وكذلك أرجحته على حبال المصالح المتعاكسة ما بين موسكو وواشنطن, وهزائمه في الإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي, وموافقته على انضمام السويد إلى الناتو وهي التي تحتضن حزب العمال الكردستاني, وسط لمحاولاته الدؤوبة للتوسع العسكري على أساس الماضي العثماني البائد, وبالإضافة إلى دوره السلبي السيء وتدخله السافر في شؤون الدول المجاورة, ورعايته للتنظيمات الإرهابية, وزعزعة الأمن وإستقرار تلك الدول والمنطقة والعالم.
أم هي لأسباب داخلية بحتة, أظهرت للناخبين مدى التخبط الاقتصادي وفشل السياسيات المالية والتجارية والإقتصادية, كهشاشة وضع الليرة التركية وإنهياراتها المتكررة, والإصرار على سياسة رفع أسعار الفائدة, وإنعكاس تداعياتها على الواقع الاقتصادي والمعيشي للأتراك, وإرتباطها بالتضخم والغلاء والبطالة, بالإضافة إلى تفشي الفساد, وإرتباطه الوثيق بأفراد عائلة إردوغان كإبنه بلال وصهره وغالبية القياديين في حزب العدالة والتنمية, أمورٌ بمجملها أدت إلى الهزيمة المدوية, وأظهرت رغبةً شعبية عارمة لتغيير ما اّل إليه الواقع الاقتصادي في البلاد, وأدى إلى تحويل التصويت الإنتخابي الشعبي إلى تصويت عقابي، وخصوصاً في المدن والمحافظات التي تأثرت بالأزمات الإقتصادية بدرجة أكبر من المحافظات والأرياف المحافظة التي حافظت على ولائها وتأييدها لإردوغان وحزبه على غرار كونيا وقيصري وملاطيا وغيرها.
ومن حيث النتيجة, اجتمعت الأسباب وصبت الأصوات في صالح المعارضة, بما يؤكد إنطلاق مرحلة بداية النهاية لمسيرة الرئيس إردوغان السياسية, بعيداً عن قضايا العمر والحالة الصحية والدستور, بعدما أظهرت النتائج وبوضوحٍ شديد تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية, وفتحت في الوقت ذاته باب الصراع على السلطة لمرحلة ما بعد إردوغان, ومنحت بعض الشخصيات ورؤساء الأحزاب الضوء الأخضر والأمل بالوصول إلى السلطة, ويبقى من المبكر الخوض في لعبة الأسماء, فقد تحمل السنوات المتبقية لوجود إردوغان على رأس السلطة في تركيا الكثير من المواقف والمتغيرات, لكن هذا لن يُخرجها بطبيعة الحال عن إطار اللعب في الوقت بدل الضائع, لكن عليه الإستفادة من نتائج الانتخابات وبأنها رسالة واضحة وجهها الناخبون الأتراك لإردوغان وحزب العدالة والتنمية, سيدوم أثرها لسنوات وعقود.
م. ميشيل كلاغاصي
9/4/2024