كتب الدكتور علي حجازي:
المشاهد المأسويّة الفظيعة التي تبثُّها شاشات تلك القنوات التي أسرِعُ في التنقّل بينها تبعث القلق، وتنشر الذعر والخوف والهلع، وتصيب الإنسان بالقهر الشديد، والوجع النفسيّ الكبير جرَّاء التفنّن في عرض صور النساء والرجال والأطفال المقطَّعة أوصالهم، والنيران التي تلتهم أخضر الحياة وتحوِّله يباسًا مع البنايات التي غدت ركامًا، بفعل انفجار آلاف الأطنان من البارود والقذائف وحمم النيران التي تَصُمُّ الآذان، وتصيب الإنسانَ بصدمةٍ كبيرة، همس عادلُ، وأضاف:
أقفلتُ شاشةَ التلفازِ على هذا الدمار الهائل وخرجت، هائمًا على وجهي خرجت، لا أعرف إلى أين، المهمّ أنّني غادرت هرباً من مشاهدتي عدادات الموت المتسارعة على امتداد الثواني والدقائق والساعات،ومن صور تلك الوحوش الفالتة من عقال الإنسانيِّة والموغلة في الدم وفي نبش المقابر ، وسرقة الأعضاء البشرية، المتلبسة جلود الذئاب الكاسرة، والمقدِّمة ألقاباً رسميَّة على أسمائها:
هذا رئيس وزراء، وذاك وزير، وذلك رئيس كيان لقيط، لا يجوز لهذه الكائنات أن تحملها، وهي الغازيةُ أرضاً وشعباً ومقدسات، وتسارع إلى إبادتهم متسلحةً بعقائدَقديمةٍخرافية لا يقبلُها عقل، وبمقولاتٍ عرقيةٍ تفوُّقِيَّة..
أخذتُ أحدِّقُ ببلاهةٍ إلى أصحابِ المحلات المشرَّعةِ أبوابُها أمامَ الزبائنَ المحتشدين فيها، وإلى أبواب الأفران، والصيدليات والمطاعم ومحطات الوقود... عبرتُ أمامَ المقاهي التي يُغطي دخانُ النراجيلِ فضاءاتِها الضيّقةَ إلى درجةٍ غابت فيها وجوهُ القابعينَ يشجعون فريقًا رياضيًا ما ، من صيحاتهم عرفت ذلك؛ الباعةُ المتجولون ينادون بأصواتٍ عالية.
يا إلهي، الأمور طبيعيّة جدّا! ألا يعلمُ هؤلاءِ أنَّ مِطحنةَ الموتِ تواصلُ طحنَ عظامِ الأبرياء في غيرمكان؟
بالطبع هم يعرفون ، ولكن ليس في اليد حيلة . الحياة تستمرّ، وهم محكومون بالسعي من أجل تأمين حاجيات أسرهم، ويبقى أنا المعلِّق وجهي على شاشات القنوات لماذا ؟ سأل عادل ُنفسه وأضاف)
توقَّفت أمام مؤسَّسة كبيرة وقرأت ما كتب على تلك اليافطة : "أدوات ولوازم طبيِّة"
حشرت جسدي بين أجساد الزبائن المنشغلين بتفحّص الأدوات والآلات والموازين
-- أهلا وسهلا، بمَ أخدِمُك؟ سأل صاحب المحلّ، على ما يبدو:
- -أريد ميزاناً
- - للضغط أم للحرارة أم ...حدِّد ، فالموازين عديدة، وآلات الفحص كثيرة. الطبُّ تقدَّم كثيرًا بحمدالله يا أخي؟
- -جئتك طالباً ميزاناً لفحص الإنسانيّة! وأشكرك على كلمة أخي.
- -حَدَجَني بنظرةٍ حادَّة،وشرع يقيسني، من رأسي إلى أخمصِ قدميَّ،وأجاب بلهجة قاسية:
- لا يوجد؛وماحاجتك إلى هذا الميزان الغريب؟
- - بي رغبة في فحص إحساسك الإنسانيّ.. وإحساسي أيضا.
- - تفضّل بالجلوس هنا. يمكنك متابعة هذه المشاهدَ المنقولةَ عبر شاشةِ التلفاز هذه، ريثما أنتهي من تلبية طلبات الزبائن، فقد أَثَرْتَ فضولي لمعرفةِ سرِّ طلبِكَ العجيب هذا.
-
- أشحتُ بنظري عن التلفاز، فعادَ يحدِّق إليّ مجدَّداً والامتعاضُ الشديدُ بادٍ على قسماتِ وجهه، ولمَّا انتهى من الزبون سألني:
- - لِمَ أشحت بصرك عن التلفاز؟
- - ولِمَ أنت لمْ تُعِرِ المشاهدَ المُحزِنةَِ أدنى اهتمام؟
- - هذه الجرائمُ المرتكبةُ، على مدارِ الأيامِ والشهور، تعوَّدنا عليها، وبتنا نحفظها من كثرة تكرارها.
- - قلْ تطبَّعنا معها!
- -أنا مطبّع ! هل يجوز لك أن تصفني بهذه الصفة؟ لحظة
- آنسة هاتِ ميزانَ الضغط. مَنْ بعثَ إليَّ بهذا الغريب ياربّي؟"
- - الضغط مرتفع يا أستاذ(قالت الآنسة، وسارعت تُناوِلُهُ الدواء).
- - ممتاز،قال عادل.
- - ما هو الممتاز ؟ارتفاع الضغط؟ أيُّ إنسانٍ أنت! وما الذي تريده منّي بالضبط؟
- أُهَنِّئُك، فَالِانفِعالُ الوجدانيُّ الرافضُ مصطلحَ التطبيع، أدّى إلى ارتفاع الضغط، ولهذا علاقة وطيدةٌ بالمشاعرِ الإنسانيّةِ التي نرجو أن نسترِدَّها كاملةً ذات يوم.
--أنت تتَّهمني بانعدامِ تلكَ المشاعرِ وخسارَتِها؟ أتشربُ القهوة معي؟ فالقهوة مفيدة لمن هو في وضعي في هذه اللحظة؟
- - لا أشربُ شيئاً الآن، وقبل أن تسألَني لماذا، سأقصُّ عليك قصتَيْنِ قصيرتَيْنِ جدّاً.
- -تفضّل، أسمعك.
ظ
- - ذاتَ يومٍ من أيامِ سنة السبعين من القرن الماضي ، كان أفرادُ أسرتِنا يتناولون طعام العشاء، وفجأة قطع المذيع مسلسلاً
كانوا يحضرونه، وقال:
- خبرٌ صادمٌ من الهند:
"بينما كان مواطن يعبرُ الشارعَ العام صدمته سيارةٌ ومات".
- عندها ، وضعت أمّي اللقمة جانباً وغادرت، وخيّمَ حزنٌ عميقٌ على وجه أبي وراح يردِّد: رحمه الله ،وأعان قلوبَ أفرادِ أسرته.
أمّا الثانية فمحليّة .
في بيروت ، أقدم أربعةُ أطفال في سن الثانية عشرة من أعمارهم تقريباً على قتل بائع لوز ، مستخدمين الأوزان الحديديّة ، وأخذوا من ذلك ما جمعه ذلك المسكين،وبعد الحدث أُلقيَ القبضُ عليهم في محلٍ لألعابِ "الفليبرز"
الآن نشاهد معاً ما يجري في محفل القتل الجنوني غير المسبوق هذا ،ونشرب القهوة ونتناول أفضل أنواع الطعام وغير ذلك . أرأيت كم خسرنا من المشاعر الإنسانيّة التي لا يزال أولئك الطلاب الذين ثاروا في الغرب وغيره مطالبين بوقف هذه الإبادة الجماعيّة، ولم تفتَّ في عضدهم تلك القسوة التي يمارسها رجال البوليس وغيرهم من القوات المسلّحة .
أنت وأنا شاهدنا ذلك الجندي الأميركي الذي أضرم النار في روحه وجسده، وظلَّ صوتُهُ يخترقُ اللهب: "فلسطين حرّة . أوقفوا المذبحة" حتى الرمق الأخير، في لحظة قاسية كان فيها حارس سفارة الكيان اللقيط يوجِّه إليه فوّهة مسدسه...لاحظ التناقض الحادّ بين إنسانية الجندي الشهيد العالية ؛ وبين العدوانيّة المتوحشة التي أبدع الحارس في إتقانها
- ما الذي نستطيع فعله أنا وأنت،إن لم تغصّ شوارعنا بالمتظاهرين، أجبني؟
-سأعمِّم الآن دعوة عبر وسائل التواصل الاجتماعي للمشاركة في التشييع
- من المتوفى- من غير شرّ؟
- أنا وأنت ومن يتضامن معنا، سنحمل توابيتَ أحاسيسِنا التي ماتت إلى مثواها الأخير وننتظر.
- ما الذي ينتظره المرء عندَ فقدِهِ اعزّ ما يملك؟
- ننتظر ولادة مشاعر وأحاسيس جديدة يكون منسوبها الإنسانيّ عالياً وسط هذا الدمار العظيم ، والسقوط الأخلاقي الكبير.
- لديَّ سؤال:
◦ ما الذي أفقدنا إنسانيتَنا ؟ تفضّل أفهمني!
- الحروب ، ما جرى ويجري فيها من قتل وذبح وسحل وإبادة وتدمير، هي أي الحروب سالبةُ البشرِ إنسانيَّتهم وكراماتهم وطمأنينتهم وراحة بالهم.
أعرفت الآنَ قذارةَ تلك الحروبِ التي يشنّها هذا الكيانُ منذ اغتصابِهِب أرض فلسطين ؟
8/6/2024