كتب الأستاذ نضال بركات:
ليس غريباً على الولايات المتحدة أن تتخلى عن تحالفاتها مع بعض الدول تبعاً لمصالحها, وهو ما تخشاه أوربا التي هي في الواجهة خاصة فيما يتعلق بالحرب الأوكرانية وانعكاس العقوبات الاقتصادية على روسيا عليها, بينما واشنطن تتحرك إلى آسيا لحشد تحالفات جديدة لمواجهة الصين التي تشكل خطراً عليها من خلال قوتها الاقتصادية وتحالفاتها مع العديد من الدول في جميع القارات, وبالتالي فإن واشنطن ليس لديها تحالفات دائمة وتتبع هذه السياسة منذ عهد الرئيس الأمريكي الأول جورج واشنطن الذي أكد في خطاب له عام 1796 أن السياسة الحقيقية هي الابتعاد عن التحالف الدائم مع أي جزء من العالم الأجنبي”.
ومن أجل احتواء الصين عززت الولايات المتحدة تعاونها مع جميع الحلفاء في آسيا والمحيط الهادي, وأنشأت في السابق مع بريطانيا وأستراليا التحالف العسكري السياسي AUKUS الذي يجري من خلاله توسيع الأسطول النووي. وتقوم حالياً بتطوير حوار أمني رباعي مع كانبيرا وطوكيو ونيودلهي, وبالتالي فإن هاتين المجموعتين تسعيان رسميًا إلى تحقيق الهدف نفسه وهو ضمان الأمن في منطقة آسيا والمحيط الهادئ, وفي حقيقة الأمر فإنها تعني المواجهة المشتركة للتوسع الصيني، وهو ما تركز عليه واشنطن باستمرار, لأنها فقدت القدرة على المواجهة المباشرة وتعمل عوضاً عن ذلك على تقديم الدعم لأوكرانيا بشحنات الأسلحة والذخائرة منذ بدء الحرب مع مساعدات جديدة أقرها الناتو خلال القمة التي عقدت في واشنطن منح خلالها أوكرانيا مساعدات عسكرية بقيمة أربعين مليار يورو على الأقل “خلال العام المقبل”, وهذه المساعدات تأكيد على نية الغرب في استمرار حربه غير المباشرة مع روسيا التي تقف إلى جانبها الصين, خاصة وأن أوربا هي في الواجهة وستنعكس عليها سلباً, بينما الولايات المتحدة البعيدة عنها جغرافياً لا تخشى إلا من تنامي قوة الصين وتعاونها مع روسيا لأن ذلك يشكل خطراً عليها, لهذا عمدت إلى توسيع تحالفاتها في آسيا بعيداً عن أوربا التي يشعر قادتها بالقلق من توجه إدارة الرئيس بايدن لجعل الناتو يركز بشكل أساسي على منطقة المحيطين الهندي والهادي, ليزيد قلقهم من احتمال مطالبة واشنطن لهم بلعب دور عسكري في منطقة المحيطين الهندي والهادي، مشابه للدور العسكري الأميركي في القارة الأوروبية, وهو ما أكده خبير السياسة الخارجية الأميركية بجامعة “دارتموث” البروفيسور وليام وولفورث عندما قال إن “بايدن يرى الناتو كجزء أساسي من موقف الولايات المتحدة العالمي ورصيد ضخم في أمن الولايات المتحدة وازدهارها, أما في حال فاز ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية المقبلة فإنه يعتبر أن حلف الناتو مثّل عبئاً على مدى عقود للولايات المتحدة وأنه صفقة سيئة بالنسبة لأميركا حيث دعمت واشنطن أمن حلفاء أغنياء ولا تحصل على الكثير في المقابل”, وفي كلتا الحالتين ينعكس القلق على أوربا, وقد شبه رئيس الاستخبارات الداخلية الألمانية، توماس هالدينوانغ، حرب روسيا ضد أوكرانيا بالعاصفة، في حين يشبّه سعي الصين للهيمنة العالمية بتغيّر المناخ. إلا أنّ ما تواجهه أوروبا اليوم ليس أقل من عاصفة جيوستراتيجية نارية, فروسيا لا تنفّذ هجوماً في أوكرانيا فحسب، بل تشن أيضاً حرباً هجينة على أوروبا. كما تنظر الصين إلى أوروبا باعتبارها جائزة استراتيجية فهي تشتري البنية التحتية المادية والرقمية، وتستعد لشنّ حرب اقتصادية على أوروبا.
وإذا كان التحالف الصيني الروسي يشكل قلقاً ليس للولايات المتحدة وحسب وإنما القارة الأوربية فكيف إذا كان هذا التحالف أوسع ليضم كوريا الشمالية وإيران, وبالنسبة لهذه الدول فإن الحرب الأوكرانية هي مجرد خط أمامي لصراع عالمي أكبر مع الولايات المتحدة حيث تمثل أوربا المسرح الرئيسي لهذا الصراع, ووفق القائد الأعلى السابق لحلف شمال الأطلسي (ناتو) الجنرال المتقاعد ويسلي كلارك فإنه إذا سقطت أوكرانيا لن تستطيع أميركا درء اندلاع حرب أوسع في أوروبا.
وفي مقال نشرته له صحيفة “يو إس توداي” الأميركية قال كلارك إن الولايات المتحدة لم تكن تواجه إبان الحرب الباردة سوى دولة واحدة هي الاتحاد السوفياتي، لكنها اليوم تواجه خصوماً أكبر وأقوى عبر جبهة أوسع بكثير, مؤكداً أن الأوربيين خائفون بسبب الحرب في أوكرانيا إضافة إلى قلقهم من التحالف الناشئ بين روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية ويستهدف أيضاً الولايات المتحدة التي لم تستطع فك هذا التحالف ولا ولا عرقلة التمدد الصيني في كافة الأسواق العالمية ولا محاصرتها بعد أن أدركت تأثيرها القوي على هيكل النظام العالمي, والمشكلة الأكبر التي أقلقت الولايات المتحدة هي زيارة رئيس الوزراء الهند ناريندرا مودي إلى روسيا الحليف الأساسي للصين قبل انعقاد قمة الناتو في واشنطن خاصة وأنها تعتبر الهند حليفاً لها, وبالتالي السؤال الهام الذي يطرح نفسه هل تستطيع واشنطن من خلال تحالفاتها تطويق الصين؟
من الواضح بأن التحركات الأمريكية لم تستطع تحقيق الاختراق الذي تريده ولا أن تزيل القلق الأوربي, لأن الصين بقوتها الاقتصادية وتحالفاتها ليس مع روسيا وحسب وإنما مع الكثير من الدول في جميع القارات جعلتها قوة لا يستهان بها, وهذا ما يشكل صعوبة أمام الأمريكيين لتطويق الصين.