أكتبُ عن بدايات الأزمة السورية
تأخرتُ عن موعدي مع المطران يوحنا ابراهيم مطران السريان الأرثوذكس في حلب، بسبب تأخر بعض الأشخاص من الفعاليات الوطنية التي أبدت رغبتها في اللقاء به.
استقبلنا سيادته، واستمع باهتمام إلى محدّثيه، وكان كعادته يكتب بعض الأفكار التي ترِد في سياق الحديث.
استمعنا إلى أصوات تفجير ورصاص وقال له أحد الموجودين عن سبب عدم انتقاله من حلب والبقاء في منطقة مطرانيته بحلب وهي على خط تماس؟ .. فأجابه مع زفرة صاعدة من قلبٍ محترق، “إن وجودي يعطي الناس بعض الاطمئنان” وأردف قائلاً : أتى إلي أهل مخطوفٍ وطلبوا أن أتدخل مع الخاطفين وكانوا يطالبون بمبلغ ما، وعندما تدخّلت أصبح المبلغ خمسة أضعاف، فاتّصلت مع جهة ما وقلت له، كم ستطلبون إذا تكلم البطريرك؟ عشرون ضعفاً؟”
كان حزيناً ممّا وصلت إليها الأمور في مدينة حلب، قال لنا “في ما مضى كان طريق حلب – دمشق يأخذ مني ساعتين ونصف، أما الآن فإن طريق مطار حلب أصبح يأخذ ساعتين”.
“كلكم يعرف أنني كنت أسافر دائماً خارج سورية لحضور مؤتمرات وندوات وغيرها، أما الآن فإن كل أصوات الرصاص والتفجير لن تبعدني عن حلب، إنني أفضل أن أكون شهيداً في حلب ولا شريداً في العالم”
غادرناه والنداء الذي أطلقه كان يختمر في ذهني.
الذي تعلمته في هذا الحصار الخانق، هو إرادة الحياة.
تعلمت أن الحياة يجب أن تكون إرادة صافية.
بدأت في سورية مع بداية الأزمة موجة من الهروب نتيجة عوامل متعددة منها الخوف من الحاضر بكل قذائفه وفصائله ورعبه ..
كان الهروب عن طريق البحر ثم التنقّل براً وكم أخذ البحر من شبابنا وأطفالنا الذين سيقفون يوماً أمام الله "جل جلاله" ليوجّهوا أصابعهم إلى من سبّب هذا الجنون وهذه الليالي الحمراء والصفراء والبرتقالية في سورية.
واليوم بعد مرور أكثر من عشرة سنوات بدأ البعض بالعودة للزيارة وهم يلكنون بينهم ببعض كلمات من لغات الدول التي منحتهم اللجوء.
إنهم يعودون لتحضنهم سورية فيُجروا العمليات الجراحية والأسنان ويسهروا ويدفعوا ويضحكونني وهم يتناقشون بالأسعار فيقولون "كتير رخيصة .. بس ٢٠ دولار".
بعد زمن من القنابل والرعب .. بدأت أحلم بطاولة للحوار بين الفرقاء، طاولة حقيقية، لا تنتمي إلى الكرنفالات التي أقمناها سابقاً.
أحلم بهدوء يعم في بلدي فلا أسمع عند الصباح إلا أصوات العصافير.
أحلم بمغيب الشمس في بحر بلادي والشفق في سمائها.
أحلم وأحلم وأحلم لأني من المطران المغيّب يوحنا تعلمتُ أن اتشبث وأن آمل وأن أثق بالله
ولكن الحقيقة الثابتة أنني سألتزم بمقولة المطران ولن أغادر حلب
وكما قال الشاعر الفلسطيني توفيق زياد:
هنا لنا .. ماضٍ .. وحاضرٌ .. ومستقبلْ
اللهم اشهد أني بلغت