بقلم :- راسم عبيدات
قلّما تجد رجلَ دين مسلم أو مسيحي يخرج من فضاء مسجده أو كنيسته وجدرانهما، كمكانين مقدسين يمارسا فيهما دورهما الدينيّ في الوعظ والإرشاد والتوجيه والدعوة إلى التمسك بالفضيلة والأخلاق، وإلى المحبة والتسامح والأخوّة ومساعدة الفقراء والمحتاجين ونصرة المظلومين والمضطهدين، ليمازجا ما بين دورهم الدينيّ ودورهم الوطنيّ.
فهذا ليس بالأمر السهل، فهناك القيود والموانع المتعلّقة والمرتبطة بالاحتلال، واستخدامه سلطتَه وصلاحياته في التضييق على رجال الدين.
وكذلك تدخل هنا الجوانب والاعتبارات الشخصية والدينية ودرجة الانتماء والوعي والانصهار مع هموم الشعب وقضاياه، وما يتعرّض له هذا الشعب من قمع واضطهاد وانتهاك صارخ للحقوق.
وقبل التطرق للشيخ عكرمة صبري والمطران عطا الله حنا ودورهما الديني والوطني والمجتمعي والأخلاقي والقيمي والإنساني ، لا بد من التعريج على نموذجين مشابهين للشيخ عكرمة والمطران عطالله.
حلب أرسلت لنا المطران كبوتشي المناضل المقاوم العروبي القومي،كمطران للقدس،وكذلك هي اللاذقية شقيقتها أرسلت لنا الشيخ المناضل المقاوم عز الدين القسام ثائراً ومناضلاً من اجل فلسطين.
ظلم وعسف وإضطهاد الإحتلال وإحتلاله لفلسطين دفعا الشيخ والمطران،للخروج من الجامع والكنيسة،لكي يمارسا الكفاح والنضال والمقاومة الى جانب شعبنا العربي الفلسطيني،وليسقط الشيخ القسام شهيدا في احراش يعبد،وليتوفى المطران كبوتشي في المنفى القسري بعيداً عن قدسه التي أحب،تلك القدس التي فتحت عينيه على مدى الظلم والإضطهاد الذي يتعرض له شعبنا الفلسطيني،ومطران تربى على العزة والكرامة لا يمكن له ان يشاهد اضطهاد رعيته ويسكت،وهي كما قال مع دخوله القدس،أصبح الشعب الفلسطيني رعيتي.
الشيخ الدكتور عكرمة صبري رئيس الهيئة الإسلامية العليا ،وخطيب المسجد الأقصى،وأمين المنبر كما يكنى او يسمى،واحد من الشيوخ الذين ابتعدوا عن الفتنة المذهبية،رغم الضغوط الكبيرة التي تتعرض لها،لكي يكون في قلبها،ولم تكن قضية القدس والأقصى والمقدسات والمجتمع المقدسي والفلسطيني هاجس هذا الشيخ فقط ،بل كان صوته يسمع في العالم العربي والإسلامي ،ولأنه كان يمارس الخطابة ويقف الى جانب المرابطين في الأٌقصى،ويحث دوماً على شد الرحال اليه من أجل حمايته من اقتحامات المتطرفين والمستوطنين،بمشاركة حاخاماتهم وأعضاء كِنيستهم ووزرائهم،من اجل إخراجه من قدسيته الإسلامية الخالصة وتحويله الى مكان مقدس مشترك إسلامي- يهودي ،ومن ثم استغلال الظرف والوقت المناسبين من أجل العبور به من زمنه الإٍسلامي الى زمنه اليهودي،وفي كل معارك الدفاع عن الأقصى وعروبة القدس تجد الشيخ عكرمة حاضراً ويتصدر المشهد ،وليس قضية الأقصى والمقدسات كانت جوهر اهتمامه،بل قضية المدينة التي تذبح من الوريد الى الوريد ويراد تدمير وتخريب نسيجها المجتمعي والأسري،وافراغ شبابها من محتواهم الوطني،ضمن الهجمة الإحتلالية الممنهجة على شعبنا في المدينة،ولذلك كان دائماً يدعو الى الوحدة والتماسك والتعاون بين كل مكونات ومركبات المجتمع،وقطع الطريق على مثيري الفتن والإحتراب العشائري والقبلي ،وكذلك لم يكن يترك فعالية او نشاط إلا ويكون حاضر فيه ومشارك بفعالية،حتى مناسبات الأفراح والأتراح،وهذه الأنشطة والفعاليات والمشاركات والخطب والدعوات واللقاءات،والمشاركة فيها من قبل سماحة الشيخ على الرغم من تقدمه في السن، تعرض لسلسة من العقوبات والمضايقات من أجهزة أمن الاحتلال ومستوطنيه،فلا يكاد يمر شهر دون ان يجري استدعاؤه الى مركز تحقيق المسكوبية للتحقيق معه،وتسليمه أوامر جديدة إما بمنع الدخول للأقصى أو منع السفر،أو منع دخول الضفة الغربية،أو الإحتجاز والإعتقال ،وعقوبات الاحتلال والضغط على الشيخ عكرمه والتحريض عليه وملاحقة المستوطنين له من أجل المس بحياته،وتعليق بوستات واعلانات من قبلهم ،تطالب بالتخلص منه وطرده وسجنه لم تتوقف،وليصل الى الأمر الى حد التضيق عليه في الجوانب الحياتية والشخصية،حيث أصدرت بلدية "القدس " أمراً بهدم البناية التي يسكن فيها في منطقة حي الصوانة- الطور،تحت ذريعة عدم الترخيص للبناية.وارتفعت وتيرة الإستهداف والمضايقات والتحريض على وبحق الشيخ عكرمة بعد خطبة الجمعة في الأٌقصى في يوم الجمعة 2/8/2024، والتي نعى فيها القائد إسماعيل هنية الذي اغتالته " إسرائيل" في طهران في 31/7/2024 من على المنبر،فبعد الخطبة مباشرة وزير داخلية الإحتلال موشيه اربيل يطالب بسحب هوية الشيخ عكرمة صبري المقدسية بحجة ارتكاب "مخالفات أمنية "وخيانة الأمانة"،ويقول بأن المادة 11 "أ" من قانون الدخول الى " اسرائيل" تمنحه الحق في الغاء تصريح الإقامة الدائمة لفعل يشكل "خيانة " للأمانة.
وكذلك ما يعرف بوزير الأمن القومي "الإسرائيلي" طالب بمحاكمة الشيخ عكرمة والتخلص منه.
في حين الجماعات المتطرفة شنت حملة تحريض واسعة على الشيخ عكرمة ودعت الى مهاجمته في بيته.ونشروا مقطع نعي هنية في الأقصى على مواقع تواصلهم الإجتماعي.وبعد ذلك نتيجة هذا التحريض داهمت شرطة ومخابرات الاحتلال بيته في الصوانة،وحققت معه في المسكوبية،ولكن عندما فشلت في إدانته،أصدرت الشرطة امراً إدارياً بمنع دخوله للأقصى لمدة أسبوع على أن تجري إمكانية تمديده لستة شهور.
أما المطران العروبي عطا الله حنا،مطران سبسطية وسائر الديار المقدسة، القادم من بلدة الرامة في الجليل الأعلى ،فهو واحد من أشد المدافعين عن عروبة المدينة ومقدساتها ووحدة نسيجها المجتمعي،ومناضل شرس ضد الطائفية والمذهبية،ويرى بأن اهل المدينة العرب بمسلميها ومسيحييها،يجمعهم نفس الهم والمصير والهدف ،وربما هو من أكثر الشخصيات الدينية التصاقا بهموم وقضايا شعبه،فهو يجوب كل ارجاء فلسطين من شمالها لجنوبها لكي يشارك أبناء شعبه افراحهم واحزانهم،والمشاركة في أنشطة وفعاليات وندوات ومحاضرات ومهرجانات ومسيرات ومظاهرات متعلقة بالهموم الوطنية والمجتمعية ...وكذلك هو ينشط في الخارج لشرح هموم وقضايا شعبه ،ومن أشد المدافعين عن عروبة الكنيسة العربية الأرثودكسية ،والداعين للحفاظ على أراضيها وممتلكاتها في القدس وفلسطين عامة.
المطران عطالله حنا نتيجة لمواقفه الوطنية والقومية، تعرض للكثير من المضايقات ومحاولات المس بحياته في محاولة فاشلة لإغتياله عبر تسميمه،وفي إطار التخلص من حضور المطران وتأثيره في المدينة القدس،جرت محاولة لإبعاده عن المدينة وتعينه مطراناً في عكا،ولكن هذه الخطوة التي جرى التخطيط لها، من خططوا لها تراجعوا عنها في ظل احتجاجات شعبية واسعة من اهل فلسطين عامة ،رأت في هذا القرار محاولة من اجل إسكات صوت المطران القومي العروبي و"تقزيما" لدوره وحضوره وتأثيره....كذلك المطران رفض هذا القرار،والتي دفعت بعض الجهات من اجل اقناع المطران بقبوله.
المطران عطالله حنا يرفض المنطق القائل بأن العرب المسيحيين أقلية، فهم عرب والعرب ليسوا بالأقلية في أوطانهم،وهذا التوصيف أقلنة لدورهم،حيث كانوا دوماً في قلب المشروع الوطني الفلسطيني والمشروع الحضاري العربي.والمطران العروبي عطالله حنا تعبير عن الصوت العروبي المسيحي المشرقي المستهدف وجوده في المنطقة من قبل أمريكا وقوى الإستعمار الغربي،فهي من تشارك في تهجير مسيحيي المشرق العربي من بلدانهم في سوريا والعراق،لكي تُفرغ المشرق العربي من مسيحيه ،ملح هذه الأرض وسكانها الأصليين.والمطران عطا الله حنا المعتز بوطنيته وتمسكه بهويته القومية العروبية، يبدي حزنه وقلقه على تناقص اعداد العرب المسيحيين في القدس خاصة وفي فلسطين عامة،ويرى بأن السبب المباشر في ذلك هي ممارسات الاحتلال وبث سمومه،وسعيه الدائم لبث الفرقة الخلافات بين أبناء الوطن الواحد،بما في ذلك سعيه الدائم لتحويل المذاهب والهويات الى قوميات وهمية ومصطنعة بالتعاون من قبل بعض المتعاونين مع مشاريعه ومخططاته.
في الختام نقول هلالنا يعاق صليبنا وأنبياءنا عيسى عليه السلام ومحمد صل الله عليه وسلم، عرب أقحاح ،والأقصى توائم القيامة ،وشيخنا الدكتور عكرمة صبري ومطرانا العروبي عطا الله حنا ،يجمعهم ويوحدهم الوطن الواحد والهدف الواحد والمصير المشترك.
فلسطين – القدس المحتلة
8/8/2024