عصا السنوار، ملحمة البسالة التي أضحت مثلًا عربيًا خالدًا، وأريكة الصمود التي دحضت الدعاية الصهيونية
مقالات
عصا السنوار، ملحمة البسالة التي أضحت مثلًا عربيًا خالدًا، وأريكة الصمود التي دحضت الدعاية الصهيونية
هناء سعادة
23 تشرين الأول 2024 , 00:07 ص


بقلم: د. هناء سعادة
 الجزائر- خطّ  الشهيد البطل يحيى السنوار بآخر لحظاته مشهدًا أسطوريًا يُخلد في الذاكرة الفلسطينية والعالمية على حد سواء. لم تكن الصورة في رحيله انعكاسا للموت، بل كانت لوحة تنبض بالحياة، حيث اختلطت الأصالة بالبسالة. ففي وسط لهيب المعارك وهدير الرصاص، بزغ في سماء الصمود مشهدٌ سيبقى راسخًا في الوجدان ومحفورا في الذاكرة حينما رفع القائد الشهيد يحيى السنوار عصاه في وجه العدو، وكأنها راية العزيمة الفولادية التي لا تنكسر مهما اشتدت العواصف. 
كان السنوار، في لحظاته الأخيرة، تجسيدًا حيًا للبسالة التي لا تعرف الاستسلام، لرجل أضناه الجرح، لكن قلبه ظل نابضًا بعزة الوطن وكرامة الأرض، ففي تلك اللحظة، تحولت العصا التي ألقاها في معركته الأخيرة على الطائرة المسيرة "درون" الصهيونية رغم الوهن الشديد الذي كان فيه إلى رمزٍ لكل من يقاوم حتى استفراغ كل الجهد، و تعبير عن ثنائية الصمود أمام القوة الغاشمة، فالكرامة لا تُقاس بالعتاد ولا بالسلاح المتطور، بل بعزيمة الرجال الذين يقفون على ثغور أوطانهم حتى النصر أو الإستشهاد.
اليوم، عندما تُذكر "عصا السنوار"، فإنها تحضر كأيقونة للصبر والمقاومة، وكأنها تقول لكل من يواجه الظلم: حينما تُستنفد كل الوسائل، وحينما تضيق الأرض بما رحبت، تبقى الإرادة هي السلاح الأقوى. السنوار في لحظاته الأخيرة لم يكن يقاتل بيديه فحسب، بل بروحه التي أبت أن تنكسر، بروح رجل آمن بأن كل ذرة جهد تُبذل في سبيل الحق ستزهر نصرا محققا.

تحولت "عصا السنوار" إلى رمز يلتف حوله الأحرار، ليس فقط في فلسطين، بل في كل أرض تنشد الحرية، ففي معجم النضال العربي، بات يُقال "رميته بعصا السنوار" تعبيرًا عن آخر لحظات الصمود حينما يفرغ المرء جهده ويبذل آخر ذرة من قوته في مواجهةٍ قد تبدو مستحيلة. إنها اللحظة التي تقف فيها بكل ما لديك، حتى حينما تتلاشى الإمكانات وتستنفد الوسائل...  معنى العبارة يتجاوز حدود الموقف العسكري؛ إنها دعوة للصمود بكل ما يملكه الإنسان، حتى لو كانت "عصا السنوار" هي آخر ما تبقى.

وبجانب العصا، كانت ذراع السنوار النازفة، المربوطة بسلك كهربائي بدائي، تشهد على عزم لا ينكسر، وكأنها تقول : "حتى لو مزّقتني رصاصات الاحتلال أو قذائف دباباته، فإن الروح الثائرة لا تموت." وجلوسه على أريكة، متحديًا آلة الحرب الصهيونية بكل جبروتها، كان إعلانًا للنصر المعنوي على كل من راهنوا على هروبه أو استسلامه، وتجسيدا لروح التحدي والكرامة، التي واجهت آلة الحرب الصهيونية الجبارة ببرودة أعصاب واستبسال لا نظير له، وفي تلة السلطان التي اختارها موقعًا لإستشهاده، كانت الكلمات الأخيرة للتاريخ، وكأن التلة نفسها تأبى إلا أن تحمل في اسمها ميراث العلو والعزة، لتخلد ذكرى السنوار ليس فقط في التاريخ الفلسطيني، بل في سجلات التاريخ الإنساني بأسره.
جاء هذا المشهد الملحمي ليختزل كل معاني المروءة و الشجاعة والبسالة من جهة، و من جهة أخرى، لينسف كل الروايات المفبركة التي روجها الكيان الصهيوني عبر ماكينته الإعلامية على أن السنوار يختبئ في الأنفاق تحت الأرض، محاطا بالأسرى، لا يأبه بآلام شعبه.
ظهر القائد الشهيد في بزته العسكرية، شامخًا كنخلةٍ لا تنحني، مقبلا في ساحة المعركة بقامةٍ تعانق السماء، مقاتلًا حتى آخر رمق، شاهرا سلاحه بيدٍ مثقلة بالجراح، شاهدة على نضاله المستميت، ومعلنًا بصموده أن الكرامة لا تهزم ولا تباع في مزاد الخوف

  لقد رفعته هذه اللحظة من رجلٍ يقاتل على الأرض إلى أسطورةٍ تتردد بين الأجيال، وكان السنوار فيها رمزًا للشجاعة، مقبلًا غير مدبر، يواجه مصيره بعزمٍ لا يلين. لقد أثبت للعالم بأسره أن المقاوم الحق لا ينحني تحت ثقل الأكاذيب، ولا يستسلم مهما تضائلت الإمكانات، بل يصنع من وقفته الأخيرة ملحمةً تسطر في كتب التاريخ، لتظل روحه خالدة في سجلات الفخر والبطولة.  

لكن، في زخم هذه الملحمة، لا يمكننا أن نتجاهل درسًا قاسيًا ينبغي أن يفهمه المتخاذلون الذين باعوا القضية في أسواق التنازلات، ف "عصا السنوار" ليست مجرد مثل ستردده الألسن جيلا بعد جيل، أو شاهدا على تحدي الروح الفلسطينية التي لا تُقهَر، بل هي دعوة لكل من هجروا درب النضال، لكل من استسلموا للواقع الأليم، وزهدوا في حقهم في الحرية بأن الخذلان ليس مجرد غفلة، بل هو خيانة للدماء التي سقت أرضنا واختلطت بترابها... خيانة لكل لحظة صمود وإباء..فصونوا وديعة الشهداء.
المصدر: موقع إضاءات الإخباري