كشفت دراسة جديدة من معهد سالك عن مسار عصبي في الدماغ يتحكم في التنفس الإرادي، مما يفتح آفاقا جديدة لتطوير علاجات فعالة للاضطرابات النفسية مثل القلق والتوتر.
التنفس: بين الوظيفة التلقائية والتحكم الإرادي
رغم أن التنفس يعد عملية تلقائية، إلا أن الإنسان يمتلك القدرة المدهشة على تنظيم تنفسه بشكل إرادي لتخفيف التوتر والقلق. عبر التاريخ، استخدمت تقنيات مثل التأمل واليوغا لتنظيم التنفس، ومع ذلك، لم تكن هناك دراسات علمية كافية لفهم كيفية تحكم الدماغ في هذه العملية وتأثيرها المباشر على الحالة النفسية.
إنجاز علمي جديد في علم الأعصاب
للمرة الأولى، حدد علماء الأعصاب في معهد سالك مسارًا عصبيًا دقيقًا يتحكم في التنفس الإرادي. باستخدام الفئران كنموذج بحثي، اكتشف الباحثون مجموعة من الخلايا العصبية في القشرة الأمامية للدماغ ترتبط بجذع الدماغ، وهو المسؤول عن الوظائف الحيوية مثل التنفس. تشير النتائج إلى أن هذا الاتصال بين المناطق العليا من الدماغ ومركز التنفس في جذع الدماغ يسمح بتنسيق التنفس مع السلوكيات والحالة العاطفية.
آفاق علاجية جديدة
يقول الدكتور سونغ هان، الأستاذ المساعد ورئيس كرسي تطوير مؤسسة بايونير في معهد سالك:
"الجسم ينظم نفسه بشكل طبيعي عبر التنفس العميق، لذا من المنطقي أن يكون هناك ارتباط بين التنفس والعواطف. لقد اكتشفنا الآن الآلية العصبية المسؤولة عن هذا التناغم، مما قد يفسر التأثيرات الإيجابية لممارسات مثل اليوغا والتأمل في تخفيف المشاعر السلبية."
اكتشاف دوائر الدماغ المسؤولة عن التحكم في التنفس
لطالما كان من الصعب فصل العلاقة بين التنفس والحالة العاطفية. فعندما يزداد القلق، يتسارع التنفس، والعكس صحيح. ومع أن الدراسات السابقة ركزت على آليات التنفس التلقائية في جذع الدماغ، فإن فريق معهد سالك هو أول من يحدد دائرة عصبية محددة تتحكم في التنفس الإرادي.
تجربة عملية لكشف المسار العصبي
افترض الباحثون أن القشرة الأمامية للدماغ، المسؤولة عن الأفكار والسلوكيات المعقدة، تتواصل مع منطقة في جذع الدماغ تُدعى "النخاع المستطيل" (Medulla) للتحكم في التنفس. وللتأكد من ذلك، استخدموا قاعدة بيانات للاتصالات العصبية وأجروا تجارب لتتبع الروابط بين هذه المناطق.
أظهرت التجارب الأولية وجود مسار عصبي يمتد من القشرة الحزامية الأمامية (Anterior Cingulate Cortex) إلى منطقة وسيطة في جذع الدماغ تُعرف بالجسر (Pons)، ثم إلى النخاع المستطيل.
التحكم في التنفس والقلق: أدلة جديدة
لا يقتصر الأمر على الاتصال المادي بين هذه المناطق، بل يشمل أيضًا الرسائل العصبية المتبادلة. على سبيل المثال، عندما يكون النخاع المستطيل نشطًا، يبدأ التنفس، ولكن الرسائل الصادرة من الجسر قد تثبط هذا النشاط، مما يؤدي إلى تباطؤ التنفس.
اختبر الباحثون هذه الفرضية من خلال تسجيل نشاط الدماغ لدى الفئران أثناء سلوكيات تؤثر على التنفس مثل الشم، السباحة، والشرب، بالإضافة إلى حالات الخوف والقلق. كما استخدموا تقنية علم البصريات الوراثي (Optogenetics) لتفعيل أو تعطيل هذا المسار العصبي في سياقات مختلفة.
عندما تم تفعيل الاتصال بين القشرة الحزامية الأمامية والجسر، أصبحت الفئران أكثر هدوءًا وتنفسها أبطأ.
في المقابل، عند تعطيل هذا الاتصال، تسارع التنفس وازدادت علامات القلق.
آفاق المستقبل: نحو تطوير أدوية تنظم التنفس
يقول الدكتور جينهُو جانغ، الباحث الأول في الدراسة:
"تساؤلنا الآن: هل يمكننا تطوير أدوية لتنشيط هذه الخلايا العصبية وبالتالي التحكم في التنفس ومنع فرط التنفس في حالات اضطراب الهلع؟"
ويضيف:
> "شقيقتي، التي تصغرني بثلاث سنوات، تعاني من اضطراب الهلع منذ سنوات. هي مصدر إلهامي في البحث عن إجابات لهذه الأسئلة."
نحو تطوير "حبوب اليوغا"
يأمل الفريق أن يسفر هذا الاكتشاف عن حلول طويلة الأمد للأشخاص الذين يعانون من القلق والتوتر واضطرابات الهلع.
يقول الدكتور هان:
"أطمح لتصميم دواء يعمل كـ 'حبوب اليوغا'، قد يبدو الأمر غريبًا، لكننا الآن نمتلك مسارًا عصبيًا يمكن استهدافه لتطوير علاجات تهدئ النفس فورا وتحدث حالة من الصفاء الذهني."
يمثل هذا الاكتشاف خطوة نوعية نحو فهم كيفية تنظيم التنفس الإرادي وعلاقته بالحالة العاطفية. ومع استمرار الأبحاث، قد نشهد في المستقبل القريب ظهور علاجات مبتكرة تساعد في تخفيف الاضطرابات النفسية من خلال التحكم في التنفس.