كتب الأستاذ حليم خاتون:
بعد أن قاد الهجوم مباشرة على لبنان من قلب قيادة الأركان الاسرائيلية، والتنسيق مع دول الناتو ومخابرات العشرة عبيد صغار، وصل الجنرال الأميركي كوريلا إلى بيروت اول من أمس ليعلن هزيمة لبنان في الحرب التي دارت منذ الثامن من اكتوبر ٢٠٢٣ ولا تزال تدور حتى اليوم... (لسخرية القدر، يعتبر الكثيرون في لبنان ممن اهداهم السيد نصرالله التحرير سنة ٢٠٠٠، والنصر سنة ٢٠٠٦ أن الحرب كانت على حزب الله وليس على لبنان)...
من أهم نتائج هذه الحرب هو سيطرة أميركا الكاملة المطلقة على لبنان بعد توقيع اتفاق وقف النار بشروط خبأت في تفاصيلها هزيمة مقنّعة للمقاومة الإسلامية في لبنان بسبب أخطاء مميتة ارتكبتها هذه المقاومة قبل الحرب، وأثناء الحرب، والارجح على ما يبدو بعد الحرب... (هؤلاء القوم الذين لا ينسون أسراهم في السجون، طيبون إلى درجة السذاجة، وحتى الهبل)...
لمحة موجزة عن تاريخ أميركا مع لبنان، تشير الى ان كل اهتمام الغرب بلبنان ينطلق من قاعدتين :
١-ترسيخ زرع إسرائيل في المنطقة، والعمل على أن تكون أقوى من كل جيرانها مجتمعين، عسكريا واقتصاديا، وماليا...
٢- السيطرة على مقدرات المنطقة ونهبها بعد ترك الفُتات للملوك والامراء والرؤساء وطبقة الواحد في المئة مع جماعة السماسرة من تجار الدين والوطن)...
في كل مرة كانت تجري انتخابات في لبنان، كان الأميركي يجد شريكا عربيا لإدارة سياسيي هذا البلد...
في العهد الناصري في مصر، كانت مصر هي شريك الاميركي في إدارة اللعبة السياسية الداخلية في لبنان...
لكن أميركا كانت دوما تشارك الاقوى حسب حاجتها...
قبلت مع عبدالناصر بفؤاد شهاب، ثم رتبت الأمور لتكون الكلمة الأخيرة في لبنان لها حتى مع الشهابية...
بعد هزيمة ٥ يونيو ٦٧، استغلت أميركا هذه الضربة التي تلقاها عبد الناصر، وسمحت لإسرائيل زيادة عملياتها ضد لبنان التي توجتها بعملية كوماندوس اسرائيلية في مطار بيروت الدولي أسفرت عن تدمير ١٣ طائرة ركاب تابعة لشركة ال MEA، هي عبارة عن كامل اسطول الشركة الجوي يومذاك...
ردت مصر بالعمل على إسقاط المرشح الشهابي الياس سركيس في انتخابات رئاسة الجمهورية سنة ٧٠ بالرغم من موافقة الرئيس الشهابي شارل الحلو على اتفاق القاهرة الذي سمح للمقاومة الفلسطينية بالاستقرار في منطقة الحافة الحدودية بين لبنان وفلسطين فيما اصطلح على تسميته ب"فتح لاند"...
استطاع هذا الوجود الفلسطيني أن يؤثر على الأجواء السياسية في البلد حتى وصلت الأمور إلى صدامات مباشرة بين الجيش اللبناني الذي ظل تابعا مخلصا للهيمنة الأميركية، والمنظمات الفلسطينية التي احتضنت معظم أحزاب اليسار ما شكل تهديدا لهيمنة أميركا المطلقة على الأجهزة الامنية وعلى البلد...
تراكمت الأزمات حتى انفجرت حربا أهلية سنة ٧٥ بشكل مثير للجدل...
بدأ الأمر باغتيال القيادي اليساري الناصري معروف سعد واختفاء الفاعل في ظروف دعت إلى الريبة والشك بأن الفاعل يتبع إلى أحد أجهزة الدولة اللبنانية؛ وكل أجهزة الدولة ترتبط بالأميركيين...
لم يمر وقت طويل حتى جرى وضع عبوة ناسفة في شارع يجري فيه حفل تدشين كنيسة على يد زعيم حزب الكتائب بيار الجميل، المعادي لليسار والفلسطينيين...
جرى تنسيق الأمر لتنفجر العبوة في نفس الوقت الذي كانت "جبهة التحرير العربية" (تنظيم فلسطيني بعثي) تحتفل بذكرى تأسيسها وكان المحتفلون يستقلون الحافلات من المخيمات الفلسطينية إلى مكان المهرجان عبر نفس منطقة الكنيسة التي تعرضت لمحاولة التفجير...
بحجة أن العبوة كانت تقصد اغتيال بيار الجميل، هاجم بضعة مسلحين من حزب الكتائب إحدى الحافلات وامطروها بالرصاص حيث سقط عشرات الشهداء والجرحى...
لعب هذان الحدثان دور الشرارة التي أشعلت الحرب الأهلية في لبنان...
وفقا لعدة مقابلات أجراها النائب اليساري اللبناني الاستاذ نجاح واكيم؛ أظهر الاستاذ نجاح اكثر من مصدر أميركي وغربي يثبت أن الولايات المتحدة الأميركية هي من قرر إشعال حرب أهلية في لبنان على أمل أن يقوم الجيش بضرب اليسار والفلسطينيين...
لكن الوضع الطائفي في لبنان جرى بغير ما تشتهيه السفينة الأميركية...
وقف المسلمون سُنّة وشيعة ضد إنزال الجيش على الطرقات؛ كذلك فعل الزعيم الدرزي الشهيد كمال جنبلاط الذي تم تعيينه رئيسا على تكتل كل الأحزاب اليسارية والقومية الذي اتخذ لنفسه اسم الحركة الوطنية اللبنانية...
عقابا على موقفه برفض إنزال الجيش لقمع الفلسطينيين والحركة الوطنية، قام سمير جعجع بتنفيذ عملية، اغتال فيها رئيس الحكومة السُنّي رشيد كرامي( ثبتت التهمة على سمير جعجع في محاكمة لم يطلب ابدا بإعادتها بعد خروجه من السجن بعفو خاص)...
عندما ساءت أوضاع اليمين التابع لأميركا لجأ الأميركي إلى سوريا وجرى اتفاق أن تدخل سوريا إلى لبنان ليكون حافظ الأسد شريك أميركا في لبنان بعد عبدالناصر...
ذهب وفد من أحزاب اليمين اللبناني إلى دمشق حيث قابلوا حافظ الاسد وطلبوا منه التدخل لوقف الهجوم الشامل الذي كانت تعده الحركة الوطنية بدعم من الفصائل الفلسطينية والتي وصلت طلائعها إلى المونتي فردي وكادت تسيطر على آخر معاقل اليمين...
دخل الجيش السوري بناء على طلب رئيس الجمهورية آنذاك ومعه كل قيادات اليمين وقام بضرب القوات المشتركة التابعة للفصائل الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية...
تم اغتيال الشهيد كمال جنبلاط في ظروف أشارت كل المؤشرات فيها ان القاتل يتبع للمخابرات السورية التي ما لبث أن وضعت كل لبنان تحت سيطرتها...
هكذا وجد اليمين اللبناني نفسه ينتقل من هيمنة فلسطينية على الأرض إلى هيمنة سورية...
انقسم هذا اليمين إلى طرفين:
واحد يريد التعامل مع السوريين واخر انقلب عليهم ويريد إخراجهم...
تحت بند وجوب توحيد البندقية اليمينية المسيحية، بدأت التصفيات داخل معسكر اليمين المسيحي فقام سمير جعجع الذي كان قد اغتال رئيس الحكومة رشيد كرامي بتنظيم هجوم على تنظيم المردة في شمال لبنان وقتل قائدهم طوني فرنجية وزوجته وطفلته وجمعا كبيرا من أنصاره... كما فعل الأمر نفسه مع قائد نمور حزب الأحرار داني شمعون فقتله مع عائلته وجمعا كبيرا من انصاره فيما عرف بعد ذلك بمجزرة الأكوامارينا...
هكذا توحدت بندقية اليمين المسيحي تحت إمرة قائد القوات اللبنانية حينها بشير الجميل الذي استدار وبدأ الهجوم على القوات السورية المتواجده في المناطق المسيحية شرق بيروت، وتبين لاحقا إنه كان اعد الخطط جيدا بالاستعانة باسرائيل التي كانت امدته بالسلاح الذي يحتاجه وبدأ التخطيط الأميركي الاسرائيلي مع اليمين اللبناني لاجتياح ٨٢ الذي أدى إلى هزيمة سوريا والفلسطينيين واليسار ووصول الدبابات الإسرائيلية إلى قصر بعبدا وتنصيب بشير الجميل رئيسا على لبنان...
كاد المخطط الأميركي بالسيطرة على لبنان مع اتفاق ١٧ أيار ينجح بفرض كل الشروط الإسرائيلية على لبنان...
مع هزيمة اليسار وفشله وفرض خروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت إلى تونس واليمن وغيرها بعيدا عن حدود فلسطين، انطلقت جبهة المقاومة اللبنانية(جمول) وبدأت عمليات ضد الاسرائيليين في بيروت وصيدا والجنوب، ثم ما لبثت أن استعادت سوريا أنفاسها وبدأت بمساعدة حركة أمل والتقدمي الاشتراكي وما تبقى من ناصريين وقوميين الذين انتفضوا في ١٧ أيار ٨٣ واخرجوا الجيش التابع لأميركا من بيروت الغربية وعادت الحرب الأهلية من جديد...
لم تتوقف هذه الحرب إلا بعد توافق أميركا مع سوريا من جديد لمحاولة احتواء دخول إيران طرفا في الصراع عبر دعم المقاومة الإسلامية المتمثلة في حزب الله والتي استطاعت في فترة وجيزة تاريخيا من الوصول إلى مرتبة توجيه ضربات مؤلمة جدا لإسرائيل...
أمّن هذا التوافق الأميركي/ السوري/ السعودي هيمنة السوريين على الأمن في لبنان بينما استلمت السعودية إدارة ما تبقى من البلد...
كان لا بد من لمحة تاريخية لإظهار كيفية تصرف الأميركيين في لبنان بهدف السيطرة عليه حتى لو عبر التفاهم مع طرف آخر...
لكن الهدف البعيد للأميركيين في الشرق الأوسط هو ضمان أمن وسيطرة إسرائيل على كل المنطقة... هكذا كان وهكذا سوف يكون دوما...
بعد هذه اللمحة التاريخية نعود إلى يومنا هذا حيث استطاعت أميركا عبر تحالف شيطاني غير مقدس مع بريطانيا وألمانيا وإيطاليا وفرنسا وبدعم من مخابرات تركيا والسعودية والإمارات ومصر والأردن وحتى المغرب بشكل اساسي؛ تمكنت من توجيه ضربات موجعة جدا لمحور المقاومة أصابت عموده الفقري المتمثل بحزب الله...
اضطر هذا الحزب إلى القبول بوقف للنار قابل لأكثر من تفسير في محاولة لإعادة ترتيب صفوفه ومجاراة الأحداث التي توالت والتي كان حزب الله على معرفة ببعضها عندما رفض بشار الأسد السماح لحزب الله باستعمال ترسانته الصاروخية المتواجده في سوريا...
احس حزب الله بهذه الطعنة السورية بيد روسية في ظهره؛ ضربة هدفت إلى منع الانتصار على الكيان الصهيوني او حتى مجرد تثبت معادلة الردع التي كانت تمنع الاسرائيلي من تدمير لبنان...
لكن حسابات البيدر لم تطابق حسابات المحصول...
قام الكيان وبضوء أخضر أميركي فرنسي بخرق هذا الاتفاق منذ اليوم الأول...
في الوقت نفسه بدأ الاميركيون وبمساعدة من اتباعهم العرب في السعودية والإمارات ومصر والأردن بتحريك الدمى اللبنانية المتحركة التابعة لاحزاب نشأت على كراهية أي مقاومة، وكراهية فلسطين ومن يحاول دعم فلسطين...
اشترى المال السعودي قسما كبيرا من السُنّة الذين وقفوا مع موقف حزب الله اثناء الحرب في مساندة غزة...
بينما عملت الإمارات وقطر على استقطاب بعض حلفاء الحزب وبناء جدار بين الاثنين في ما يتعلق بإعادة تكوين السلطة في لبنان...
وبما أن السعودية واميركا تملكان قرار معظم الأحزاب المسيحية الكبرى، وبما أن معظم الدروز يتبعون أجندة السعودية في لبنان، تقرر استعمال الضغط العسكري عبر الخروقات الإسرائيلية من جهة، والضغط المدني عبر منع المساعدات عن أهالي الجنوب والبقاع والضاحية كما حصل مع الطيران العراقي والايراني الذي يحط في مطار بيروت الدولي، خاصة بعد سيطرة الأكراد التابعين لأميركا على قسم كبير من سوريا والتنظيمات التكفيرية التابعة لتركيا التابعة بدورها لأميركا على قسم آخر فيما تقدمت إسرائيل حتى حدود دمشق وكل ذلك لقطع الطريق على أي محاولة لدعم البيئة اللبنانية المعادية لإسرائيل...
حُشر حزب الله في الزاوية واضطر مرغما على القبول بقائد الجيش جوزيف عون التابع للأميركيين رئيسا للجمهورية...
ولإكمال الخناق والحصار لهذه البيئة تدخل الأميركيون والسعوديون ومنعوا بعض اتباعهم من الاغبياء من ترشيح فؤاد مخزومي او أشرف ريفي لرئاسة الحكومة لعدم شعبية هذين الرجلين المتطرفين الغارقين في الفساد والسرقات ومصادرة أملاك الدولة البحرية ولجأوا إلى خدعة ربع الساعة الأخيرة في تبني القاضي نواف سلام الذي يحظى بتأييد الكثيرين من المستقلين الذين لم يستطيعوا هضم لا فؤاد مخزومي ولا أشرف ريفي...
لو لم يقم الاميركيون والسعوديون بهذه الخطوة لكانت فرص النجاح لمحمد نجيب ميقاتي المدعوم من فرنسا كبيرة بسبب تشتت الأصوات...
تغيير الصورة بهذا الشكل الدراماتيكي المفاجئ أربك حسابات حزب الله الذي كان تلقى وعودا ما من جوزيف عون وميقاتي لمنع خنق بيئة المقاومة...
من المبكر القول أن القاضي سلام سوف يخضع لاميركا...
صحيح ان الرجل يحمل الجنسية الأميركية؛ لكنه يحمل CV إشكالي...
منهم من يقول انه كان يقاتل مع حركة فتح أثناء الحرب الأهلية وإنه جُرح في بلدة الخيام...
منهم من يقول حتى إنه كان أسيرا في معتقل الخيام...
منهم من يربطه مع منظمة العمل الشيوعي ومحسن ابراهيم...
هل يطمئن كل هذا؟
محمود عباس كان ولا يزال في حركة فتح وكذلك معظم الخونة من جماعة السلطة التي تنسق مع الكيان والتي قامت بمؤازرة إسرائيل في حربها على مقاومة الضفة...
محسن ابراهيم والكثيرون من جماعة منظمة العمل الشيوعي وفرعها الفلسطيني (الجبهة الديمقراطية) هم من أنصار اتفاقية أوسلو التي قصمت ظهر الشعب الفلسطيني...
لهذا من الصعب جدا الاطمئنان إلى قاض يحمل جنسية أميركية واستطاع الوصول ال عضوية مؤسسات دولية هي دائما تحت هيمنة أميركا...
لكن المهم ليس هنا...
المهم هو كيف سوف يتصدى حزب الله لهذه الهجمة الأميركية السعودية؟
إذا انتهج حزب الله نفس سياسة الطوائف وحقوق الطوائف وغيرها من سياسات ممالئة نظام السلطة الطائفية القائم...
فهو سوف يخسر بكل تأكيد لأن هدف أميركا إعادة حزب ألله إلى القوقعة الشيعية التي أخرجه منها السيد نصرالله بإقامة محور وطني قومي عربي من فلسطين ولبنان وسوريا والعراق واليمن...
محور يتلقى الدعم من إيران صحيح، لكنه ملتزم بقضايا الأمة العربية...
رد الفعل الأولي لحزب الله على الانقلاب الأميركي الذي بدأ والذي تهدف أميركا إلى استكماله في مدة أقصاها سنة مع الانتخابات النيابية التي سوف تحاول فيها أميركا اختراق البلوك الشيعي الموجود في البرلمان عبر أزلام لا يساوون قشرة بصلة اليوم مثل مكرم رباح وعلي مراد وغيرهم...
اميركا التي استطاعت السيطرة عل قسم كبير من شيعة العراق الذين اصطفوا إلى جانب الرجعيات الخليجية العربية والذين يسيطرون على قسم مهم من الرأى العام العراقي؛ تستطيع أميركا هذه تلميع صورة بعض كعوب الكنادر الشيعية وإيصالها إلى البرلمان ليكون رئيس البرلمان الشيعي في لبنان أميركي الهوى...
الطريق لهذا سوف يكون على الأرجح في بيع لبنان من كيسه سواء في وقف النار او في ملف إعادة الإعمار...
كيف سوف تمشي الأمور؟
لا يستطيع أي كان التنبؤ... لكن مجئ ميقاتي لم يكن ليكون افضل حالا...
في النهاية كل رجالات السلطة في لبنان والعالم العربي وفرنسا وبقية أوروبا هم في جيب الأميركي، وحتى إشعار آخر، هم تلقائيا في جيب إسرائيل...
عودة إلى ألف باء النضال القومي والوطني...
العدو الأساسي لنا هي الامبرياليات الغربية...
لا نستطيع هزيمة الكيان الا بعد هزيمة او على الأقل تهديد مصالح تلك الامبرياليات حتى تخشى على مصالحها وتتخلى عن دعم تلك الغدة السرطانية على أرض فلسطين...