سورية بين احمد باشا واحمد الشرع., من باب توما الى الساحل.
مقالات
سورية بين احمد باشا واحمد الشرع., من باب توما الى الساحل.
م. زياد أبو الرجا
16 آذار 2025 , 22:16 م


- عقد مؤتمر باريس للسلام ( ٢٥ شباط / فبراير الى ٣٠ اذار/ مارس) ١٨٥٦ بعد حرب القرم وفي المؤتمر تم ارغام تركيا على القبول بشروط القوى الاوروبية مقابل مساعدتها ضد روسيا.هذه الشروط هي منح المسيحيين وبالتحديد في اسيا الصغرى الحقوق المدنية التي تضعهم على قدم المساواة مع المسلمين تقريبا.

في عام ١٨٦٠ قام الثأريون والانتقاميون. الدروز بالتكرار الفظيع للمجازر ضد المسيحيين الموارنة في لبنان. انتشرت اخبارها في دمشق وريفها.كان احمد باشا في دمشق يخطط سرا لابادة المسيحيين.(كان سكان دمشق ١٣٠ الف مسلم وعشرين الف مسيحي تابعين للكنيسة اليونانية وسبعة الاف يهودي ) وعم فيها الهلع والخوف. تسربت الاخبار عن مؤامرة احمد باشا وانتشرت الشائعات حولها ووصلت الى مسامع الامير عبد القادر الجزائري الذي قام فورا باخبار لانوزي Lanusse القنصل الفرنسي في دمشق وكان رجلا عمليا وجمع طاقم القنصلية وقرروا ان يطلبوا المساعدة من احمد باشا (المدبر الرئيسي للمؤامرة) قابلهم احمد باشا وكان اللُّطف بعينه حيث عبر عن عظيم دهشته مما سمعه منهم، واكد لهم ان باستطاعتهم الاعتماد عليه وعلى جنوده الشجعان .بعدما خرج القنصل لانوزي من عنده راح احمد باشا يعطي الاوامر لتاجيل المذبحة ليمنح مزيدا من الحذر والوقت للمتأمرين.

في شهر ايار/ مايو قام عبد القادر بتحذير مجمع القناصل الذين صاروا ضحية الهوس الذي اثاره عبد القادر ولانوزي فقاموا بالغاء اجتماعهم الدوري المعتاد.

في حزيران قام عبد القادر بتحذير لانوزي للمرة الثالثة.صار لانوزي الان مقتنعا اكثر من اي وقت مضى بحقيقة الخطر الداهم وقام بتحذير القناصل للمرة الاخيرة لكنهم سخروا منه ومن تحذيراته.

قرر لانوزي وعبد القادر العمل منفردين وقام عبد القادر بتجميع الجزائريين الذين كانوا يعيشون في الضواحي على دفعات صغيرة حتى لا يثير الانتباه، وذهب الى الأئمة الذين كانوا يحسدونه على شعبيته وسمعته بين الناس ، وذهب الى المقاهي والاسواق يدعوهم الى التهدئة والسلام ، وذهب الى بيت المفتي يدعوه الى التهدئة وان يستخدم نفوذه من اجل السلام وتبديد الخوف والهلع.كان الوضع متوترا وكل ما يحتاجه شرارة تشعل النيران.

* في الثامن من شهر تموز/ يوليو كان بعض الصبية يلهون ويلعبون وقاموا باستخدام الطباشير برسم الصلبان على عتبة احد منازلهم فقام المارة المسلمون بالبصق على هذه الصلبان وارغموا الصبية على الدوس عليها وتلطيخها بالاوساخ وقاموا بضربهم.ذهب مسيحيو الحي الى احمد باشا يشكون اليه ما حصل، فابدى تعاطفه معهم واعطى اوامره بسجن المسلمين الذين اعتدوا على المسيحيين واعطى اوامره بازالة الاوساخ عن العتبات وتنظيفها بايديهم.وهكذا قدم نفسه كبطل للمسيحية وبمهارة فائقة اشعل القطار الذي يحمل المتفجرات.

* في اليوم التالي ساد الصمت المشؤوم في المدينة ، وفجأة مع ظهيرة ذلك اليوم علت الصيحات والصرخات من كل مكان وزاوية في المدينة وبذات اللحظة : الموت للمسيحيين، الموت للمسيحيين،الموت للمسيحيين،واخذت حشود المتعصبين تلوح بالبنادق والسيوف والفؤوس والسكاكين واتجهوا الى باب توما الحي الذي يسكنه المسيحيون.ما جرى بعد ذلك لم تكن معركة ولا حرب اهلية بل كانت مجزرة تم فيها ذبح المسيحيين كالاغنام.فر المئات قبل ان يصلهم قاطعوا الحناجر والجموع التي مارست السلب والنهب والقتل والاغتصاب.صارت كل القنصليات الاوروبية مراكز ايواء للمسيحيين الفارين .تم محاصرة القنصليات ما عدا القنصلية البريطانية .طلب القنصل البريطاني من احمد باشا ان يتخذ الاجراءات اللازمة لوقف المجزرة .كتب فيما بعد: (كنت دائما احصل على نفس الاجابات والتي كانت اما ساتخذها او اتخذت ذلك ولكنه لم يفعل شيئا.وعندما وبخته قال لي: ليس لدي القوات الكافية ولكنه في الحقيقة لم يتزحزح من مكانه).

* دخل رجال عبد القادر وايقظوه من قيلولته واخبروه بان المجزرة وقعت، لم يتردد لثانية واحدة وامر خمسين من رجاله الجزائريين بقيادة المخلصين كارا محمد ومحمد بن خير ان يحموا القنصلية الفرنسية ويدافعوا عنها حتى الموت.وركب جواده وذهب الى بيت المفتي ، لم يسمح له بالدخول ومع اصراره جاءه الرد بان المفتي نائم واوصدوا الباب في وجهه.علم عبد القادر ان احمد باشا جمع جنوده في القلعة ولم يكن هناك اي مظهر رسمي من ضبط الاوضاع في الحي المسيحي.وان ما حصل ليس مجرد رد فعل تلقائي من الناس ولكنه مجزرة كاملة التخطيط والتنفيذ قامت بها الحكومة.

ذهب عبد القادر ورجاله الى القنصلية الفرنسية وشقوا طريقهم عبر الحشود الذين طوقوها ووجدوا ان دفاعاتها بدات تضعف ولو تاخر عبد القادر لدقائق لاقتحموها, نادى عبد القادر القنصل الفرنسي باعلى صوته: (( لانوزي اذا بقيت هنا ساضطر الى ان اقسم قوتي.اضرب علمك فوق بيتي وسيصير بيت عبد القادر فرنسا)).وبمواكبة الجزائريين خرج لانوزي ومعه كل الذين لجاوا الى القنصلية ومروا عبر المدينة الى بيت عبد القادر.وهناك وجدوا قناصل امريكا وروسيا واليونان الذين قبل ايام قليلة سخروا من تحذيراته وكان ايضا عدد كبير من اللاجئين المسيحيين.

صار عبد القادر الان هو البطل المدافع عن المسيحيين ، وصار من حقه ان يدافع عن بيته الذي صار غير امن.اتخذ خطوة اكثر جرأة واقداما وقرر ان يترك قوة صغيرة للدفاع عن بيته وخرج مع اثنين من ابناءه وثلاث مائة من رجاله الأقوياء البنية والشجعان واتجه الى مركز الحدث، وبينما المجرمون منهمكون باعمالهم الاجرامية سمعوا صوت العربي الذي جاهد بلا كلل او ملل لمدة خمسة عشر عاما يصيح باعلى صوته: (( ايها المسيحيون تعالوا اليّ! انا عبد القادر ابن محيي الدين.ثقوا بي وساحميكم )).في البداية لم يكن هناك اي تجاوب، خشي الضحايا ان يكون هناك مجزرة جديدة ، ولكن بالتدريج بدا يحصل على الثقة، وبدات تبدو الوجوه البيضاء والاجسام من وراء القضبان والشبابيك رجال ونساء مرعوبين، واطفال يخرجون من الابار والحفر وتجمعوا بسرعة وتم مواكبة المسيحيين بدفعات صغيرة الى بيت الامير متقدمين من شارع الى شارع.اكمل عبد القادر ورجاله مهمتهم بينما حشود القتلة المجرمين ينظرون بحنق وغضب الى الفريسة التي انتزعت منهم.

تم انقاذ ثلاثمائة من القنصلية اليونانية .واتجه عبد القادر ورجاله الى دير اخوات الرحمة الذي يقع في مكان اخر من المدينة الذي لم يصل اليه القتلة وانقذوا ستة كهان واحد عشر راهبة واربعمائة طفل.شق عبد القادر طريقه عبر شوارع دمشق الملطخة بالدماء محاطا بالرهبان والراهبات والاطفال الذين خطفهم من الموت.هؤلاء محاربو الجهاد الجزائريون يمسكون الاطفال بيد وباليد الاخرى يدفعون باعقاب بنادقهم القتلة.ومع كل ما فعله عبد القادر استمرت المجزرة.

* ثاني يوم تجمعت الحشود الغاضبة حول بيت عبد القادر يشتمونه ويسبونه مطالبين بتسليم المسيحيين.خرج اليهم الامير وخاطبهم قائلا: (( يا اخوتي ما تقومون به اثم وخطيئة اليست مكتوبة * لا اكراه في الدين))....ومن يقتل رجلا لم يرتكب جريمة او يعيث فسادا في الارض سيكون مجرما.صاح الحشد بسخرية : لا نريد نصائحك ايها المجاهد.رد عليهم عبد القادر: (( ايها الحمقى ، انتم حيوانات لا ترى ابعد من العشب والماء .صاح الحشد سلمنا المسيحيين، سلمنا المسيحيين..صاح عبد القادر: ما دام جندي من جنودي الشجعان على قيد الحياة فلن يتم تسليمهم.المسيحيون ضيوفي يا قتلة النساء والاطفال! اولاد الظالمين! تقدموا وجربوا اخذهم، وسترون كيف يقاتل جنود عبد القادر ! ونظر الى رجاله اقسم بالله سنقاتل من اجل قضية مقدسة كما قاتلنا سوية مع كارا محمد وحصاني وسلاحي فصاح الجند بحماس وبدات الحشود بالتفرق.استمر عبد القادر وجنوده يجمعون المسيحيين من مخابئهم وجلبهم الى بيت عبد القادر.

* ادى العمل البطولي الذي قام به عبد القادر الى انقاذ اثنتي عشر الف مسيحي.ومع ذلك لم يدعي عبد القادر اي فضل لما قام به لنفسه.وعندما كتب اليه باليمور مهنئا رد عليه بكل تواضع : انا لا استحق مديحك، بلغ هذا لسلطانك انني كنت اداة فقط.كلما مررت في شوارع دمشق اراه يمشي امامي ويقول لي افعل هذا ففعلت.اسلك هذا الطريق فسلكته.انقذ هذا الرجل فانقذته.

* اتخذ الاستراتيجيون الامريكيون وعلى راسهم زبينيو برجينسكي المثل العربي (( لا يفِلًّ الحديد الّا الحديد ))وطبقوه بشعار (( لا يفِلًّ الاسلام الا الاسلام )).عندما تبنوا استراتيجية الفوضى الخلاقة الداعية الى حروب المجتمعات مع بعضها البعض بديلا لحروب الجيوش.فلمحاربة اسلام الرحمة والمحبة والسلام الذي يدعو للتعارف * انا خلقناقكم شعوبا وقبائل لتعارفوا * ( فلا عدوان الا على الظالمين ).اتخذوا من اسلام الوهابية والاخوان الاسلام الذي يفلُّ الاسلام.هؤلاء المتلونون كالحرباء فتارة باسم القاعدة وتارة بلون داعش وتارة ثالثة باسم جبهة النصرة وختاما باسم هيئة تسليم الشام. ارهاب واحد لا يسلط سيفه الّا على رقاب العرب والمسلمين.وفي سورية من باب توما الى الساحل، نفس النهج ونفس العقلية العصبية المتعطشة لسفك دماء المسلمين .وعلى الرغم من الفارق بعشرات السنين( ١٦٥ سنة)يتكرر نفس المشهد، فبدلا من اللجوء الى القنصليات وبيت عبد القادر صار اللجوء الى قاعدة حميميم.

سورية التي غسلت بتسامحها وعروبتها كل الدماء التي لطختها هي نفسها سورية القادرة على تطهير بيئتها الحالية،وستكنس كل من اعتدى وتعدى على اتباع رسالات السماء، وسينهض منها الاف الرسل والاتقياء ينشرون المحبة والتسامح والسلام والخلاص.

فيا امراء الغزو التركي موتوا بغيظكم لن تتكلم سورية بغير اللغة العربية.ستناجي كنائسها ومساجدها كنائس القيامة والمهد والمسجد الاقصى، معراج محمد الى السماء بعد ان امَّ في الانبياء

ربنا لا تؤاخذنا بما فعل ويفعل السفهاء.

مهندس/ زياد ابو الرَّجا

المصدر: موقع إضاءات الإخباري