كتب الستاذ حليم خاتون:
السلطة مقبرة الثورات...
يحق لأي مقاومة استلام السلطة بعد الانتصار والتحرير...
في هذه الحالة، عادة ما ينحدر المفهوم العقائدي لهذه المقاومة من قمة الثورة إلى قاع البيروقراطية قبل أن تنتهي إلى مزبلة التاريخ...
هذا هو ألف باء السياسة والاجتماع...
ينطبق على كل الثورات، وكل الأنظمة...
من مقدمة إبن خلدون إلى أمير ميكيافيلي إلى كل نظريات الاجتماع السياسي وصولا إلى كارل ماركس؛ كل التجارب التاريخية تدور ضمن هذه المعادلة...
لماذا إذن لم يدخل حزب الله في السلطة التنفيذية بعد الانتصار وتحرير سنة ٢٠٠٠؟
للإجابة على هذا السؤال، يجب العودة الى أمرين إثنين على الأقل:
١- أدبيات حزب الله التي تتحدث عن عقيدته...
٢- تاريخ علاقة حزب الله بالسلطة منذ الانطلاقة الأولى بعد اجتياح ١٩٨٢ وصولا إلى التحرير في أيار سنة ٢٠٠٠...
بالنسبة إلى أدبيات حزب الله وعقيدته، يمكن اعتبار نصر أيار سنة ٢٠٠٠ من وجهة نظر حزب الله مجرد نهاية إيجابية للمرحلة الأولى في الصراع الابدي بين الأمة والمشروع الاستعماري الذي تُعتبر إسرائيل فيه مجرد وكيل، أو كلب حراسة متقدم لمصالح الاستعمار الغربي؛ لذلك رأى حزب الله وجوب الانطلاق إلى المرحلة التالية ومعاودة القتال والنضال حتى النصر النهائي الكامل...
يمكن القول يومها أن الوقت لم يكن قد حان بعد لاستلام حزب الله السلطة؛ هذا في حال اراد الحزب ذلك فعلا...
هنا نأتي إلى النقطة التالية في تبيان نظرة حزب الله من مبدأ استلام السلطة، وهذه النقطة معقدة جدا بسبب التركيبة الطائفية الدينية المناطقية الإقليمية للحزب نفسه وللمجتمع والإقليم...
هذا الموضوع خارح عن نطاق بحثنا الآن...
مباشرة بعد الاجتياح سنة ٨٢ وانهيار كل خطوط الدفاع أمام العدو الصهيوني، وهروب مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية دون قتال من معظم النقاط في أرض المعركة، قام رجال (عظام تاريخيا)كانوا مجرد أفراد من عدة اتجاهات ومشارب حزبية وتنظيمية بتكوين مقاومة على الأرض ( on the spot) بما تيسر من إمكانيات...
هناك من أتى من حركة فتح كالشهيد القائد عماد مغنية؛ هناك من أتى من حركة إسلامية في طور التكوين كالحاج الشهيد القائد فؤاد شكر؛ وهناك من أتى من الاتجاه الإسلامي في حركة أمل كالشهيد القائد السيد حسن نصرالله، والأمين العام الحالي لحزب الله الشيخ نعيم قاسم...
كان الهم الأول عند هذه الطلائع الأولى لما سوف يكون في المستقبل مقاومة إسلامية جهادية في لبنان هو المقاومة والتحرير...
تأسست هذه المقاومة في قلب القتال وتحت النار، وقامت بأهم عملياتها الأولى أثناء الاجتياح نفسه حيث تجمع الشباب بمن توافر وأقاموا خط دفاع في خلدة، قبل أن ينسحبوا إلى قلب الضاحية الجنوبية لبيروت ويجعلوا منها منطقة خطر لم يتجرأ الاسرائيلي على دخولها حتى بعد اجتياح بيروت واحتلال القصر الجمهوري في بعبدا...
تأسس حزب ألله وخاض خلال العشرية الأولى حربا شعبية بامتياز ونفذ عمليات نوعية كان أبرزها عملية الشهيد أحمد قصير الذي استهدف مقر قيادة الاحتلال في مدينة صور عبر اقتحامها بسيارة مفخخة في عملية استشهادية أدت إلى سقوط اكثر من سبعين جندي وضابط وضابط استخبارات للعدو...
لعل نجاح حزب الله خلال هذه العشرية الأولى هو ما دفع الأميركيين والسعوديين للاتفاق مع السوريين على وضع لبنان تحت الوصاية المشتركة لهذه الأطراف الثلاثة في ما سمي لاحقا اتفاق الطائف...
تحت المظلة الأميركية حصرا، تقاسم السعوديون والسوريون حكم لبنان...
السلطة السياسية في لبنان كانت من نصيب نظام حافظ الأسد في سوريا، والسلطة الاقتصادية خضعت لنظام آل سعود...
حكمت لبنان في تلك الأيام ترويكا من رئيس حكومة يملك صلاحيات واسعة وضعت السعودية على رأسها أحد المقاولين اللبنانيين التابعين لها هو رفيق الحريري، بينما وازن السوريين هذا النفوذ السعودي برئيس جمهورية ماروني محدود الصلاحيات، ورئيس برلمان شيعي هو نبيه بري البارع في لعبة التوازنات التي حفظت نوعا من التكامل السعودي السوري لكن دائما تحت الوصاية الأميركية...
حكمت هذه الترويكا لبنان بعد اتفاق الطائف الذي ظل ولا يزال، مجرد اتفاق منقوص غير قابل للتطبيق لأن الجميع يعرف اين تكمن علة إقامة دولة في لبنان ولا يوجد أي حزب او تنظيم وازن مستعد للذهاب الى هدم النظام الطائفي القائم، وإقامة نظام مدني علماني خارج القيد الطائفي...
الكل يستفيد؛ كل اهل السلطة والمعارضة والنظام الاقليمي والدولي الذي لا يريد وجود دولة قوية عادلة في لبنان...
شكلت مقاومة حزب الله عنصر قلق لمنظومة السلطة في لبنان بجناحيها السياسي السوري والاقتصادي السعودي خاصة بعد رفض الحزب لاتفاق أوسلو وعملية التسوية مع الكيان الغاصب؛ لذلك صدرت الأوامر للجيش اللبناني بالذهاب إلى منطقة الجنوب والاصطدام بالمقاومة ونزع سلاحها...
بارك هذه الأوامر رفيق الحريري عن السعوديين وعبد الحليم خدام عن السوريين...
لكن قائد الجيش اللبناني آنذاك، الجنرال إميل لحود، رأى في ذلك فتنة سوف تؤدي إلى عودة الحرب الأهلية وتجعل من هذا الجيش مجرد دمية في يد إسرائيل وحرس حدود للاحتلال...
أفشل إميل لحود الخطة الأميركية السعودية بغطاء سوري مثّله خدام وغازي كنعان، فانتقل رفيق الحريري إلى لعبة جذب حزب الله إلى داخل السلطة لإغراقه في مغانمها وإدخاله في حبائل الفساد الذي يربط كل بنى القوى والأحزاب والجمعيات دون استثناء...
اذا كانت البداية عند حزب الله عبر الدخول إلى البرلمان بما يمثله من بنية تشريعية لحماية فساد السلطة بكل أنواعها قد نجحت، فإن الدخول إلى السلطة التنفيذية وما تمثله من قوة الهيمنة على كل الإجراءات والأفعال وعمليات الفساد ما لبث أن تحقق بسبب الفراغ الذي تركه اغتيال رفيق الحريري وخروج السوريين من لبنان ووصول (العميل الأميركي) فؤاد السنيورة إلى السراي وما يمكن أن يشكله من تهديد لفكر المقاومة وحرية عملها وهذا ما اثبتته نوايا وأفعال فؤاد السنيورة طيلة فترة تواجده على رأس السلطة التنفيذية...
هكذا وجد حزب الله نفسه يغطس في أمور السلطة اليومية بكل الفساد الذي تحمله وتحويه، فتعايش مع هذا الفساد بالحد الأدنى الممكن واضطر إلى القبول به وحتى حمايته في كثير من الأحيان باسم التحالفات والتفاهمات التي ربطته بأعمدة الفساد في فريقه السياسي المتمثل بجماعة الثامن من آذار الذين لم يكونوا أقل سوءا وفسادا وحتى عمالة عن جماعات الرابع عشر من آذار...
وجود حزب ألله الجزئي في داخل السلطة جعل منه حزبا يحافظ على النقاء الثوري في أمور، ويماشي ويمارس الفساد في أمور أخرى...
لعل من أسوأ ما ارتكبه حزب الله في الفترة الماضية هو دخوله من حيث لا يدري في ممارسة الفعل الشائن حين غطى السلطة اللبنانية في عملية تطبيع وخيانة موصوفة عند قبوله بالترسيم البحري الذي أدى إلى إعتراف ضمني بالعدو الإسرائيلي والاعتراف بشرعية احتلاله لفلسطين من اجل مكاسب نفطية وغازية تبين لاحقا انها لم تكن سوى الفخ الذي نُصب له ليقع فيه بعد عملية حصار وإفساد اقتصادي سياسي استمر اكثر من ثلاثين عاما ضمن مخطط لم يستطع حزب الله رؤيته لعدم تمتعه بعقيدة راسخة للقتال حتى النهاية ورهانه دوما على قبول غربي وتسوية ما...
حزب الله الذي نجح في حرب التحرير الأولى في إجبار العدو على الخروج من معظم الأرض اللبنانية المحتلة دون قيد او شرط؛ حزب الله الذي استطاع في تموز ٢٠٠٦ مجابهة العالم بما في ذلك دول المحور الشرقي ووافق مرغما على القرار ١٧٠١...
هذا الحزب لم يستطع مجاراة غزة في قتال وجودي وتخلى طائعا عن اكثر من اربعمائة موقع جنوب الليطاني حيث ترك أقل من ثلاثة آلاف مقاتل يواجهون جيشا بريا من سبعين ألف من نخبة الجيش الإسرائيلي مع كل دعم حلف الناتو وبالأخص أميركا وبريطانيا...
ثم قام طائعا بتسليم ٢٠٠٠ صاروخ كورنيت آصافة إلى كميات هائلة من الذخائر وصواريخ بركان وكاتيوشا وغراد كان باستطاعتها ليس فقط هزيمة إسرائيل بل حتى الناتو نفسه اذا دخل برا...
نحن لا نتحدث هنا عن قذائف الياسين المحلية الضعيفة نسبيا مقارنة مع الكورنيت، ولا نتحدث عن حصار داخل أقل من ٣٠٠ كلم٢...
حتى لو فرضنا أن حزب الله ارتكب أخطاء مميتة حين تأخر في استعمال الصواريخ النوعية للرد على العدوان والقصف الإسرائيلي فإن الحزب لم يذهب إلى العقيدة الحسينية في القتال وقبل بوقف مذل لاطلاق النار كان من الطبيعي أن يرسل ال الصهاينة الإشارات الكافية أن الحزب الذي يواجهون اليوم لم يعد ذلك الحزب الذي واجهوه في الثمانينيات والتسعينيات وحتى في حرب ٢٠٠٦...
من المضحك المبكي سماع ابواق جماعة المقاومة يدافعون عن هذه الأخطاء؛ تارة بالتحدث عن التكفيريين، وتارة أخرى بالتحدث عن عملاء الداخل والخوف من الطعن بالظهر...
كل تلك الأعذار أقبح من الذنب الذي ارتكب حين تم السماح لكل هؤلاء بالتواجد لأن الحزب الذي ضربهم في السابع من أيار لم يقم بإكمال المهمة والقضاء عل كل تلك البؤر...
ثم هل أن إيقاف الحرب بالشكل الذي تم.. هل أوقف التآمر القواتي التكفيري ام زاد من قوة اندفاعه وتجرؤه على تخطي حدود ما ليتجرأ على تخطيها لو واجه القوة التي كان يجب مواجهتها...
لقد كانت بدايات حزب ألله فعلا بدايات ثورية استطاعت تخطي كل الثوريين وفرضت على المنطقة جوا ثوريا تحريريا مميزا إلى أن دخل الحزب في دهاليز السلطة فبات توأما لحركة أمل (شوية ثورة على شوية مقاومة على شوية سلطة وشوية فساد)...
عندما يخرج عبدالله قمح يقول أن الأميركيين سمحوا لحزب الله الاحتفاظ بالسلاح ويهدد حزب القوات من هذا المنطلق، نعرف إلى أي درك وصل هذا الحزب...
عندما ينتظر بعد أبواق محور المقاومة نتائج إيجابية في محادثات أميركا إيران، ويسوّقون إلى انتصارات دونكيشوتية من وراء ذلك، نعرف إلى أي منحدر وصل بعض هذه المقاومة...
أن التاريخ لا يرحم...
من ينحدر إلى القاع لن يبقى في قلوب الناس...
قد يبقى في جيوب بعض هؤلاء الناس؛ لكن قطعا، ليس في قلوبها...
لكن فئة قليلة لا بد أن تخرج من هذه التجربة...
لا يمكن أن لا يكون ضمن بيئة أكثر من مليون مقاوم قيادات لا ترى الأخطاء التي رآها ويراها الجميع...
لا يمكن أن لا يكون هناك من نسي مهمة قوة الرضوان...
لا يمكن أن لا يكون هناك من وعد نفسه بالصلاة في الأقصى ثم يعدل اليوم لأن فئة ما لم تقم بما كان يجب، ولم تقاتل حين وجب القتال...
إلى أين يسير حزب الله؟
لا احد يعلم...
خطابات الشيخ نعيم لم تعد بكل أسف تعبر عن النبض المقاوم...
أحاديث مسؤولي حزب الله تدين نفسها بنفسها حين يتحدث النائب قماطي مثلا عن الجيش اللبناني الذي يدمر ما يصادر من سلاح كان يجب ان يكون في ايدي المقاومين بدل ان يسلم الى مورغان أورثاغوس او هوكشتاين...
"اللي استحوا ماتوا"...
أن الأوان للسكوت عن الكلام المباح...
كفوا عن الهرب إلى الأمام...
لن يأتي الفرج من ترامب أو ويتكوف...
كما لن يأتي الفرج ممن باعنا من ضمن المحور يوم كان يجب ان يكون في قلب المعركة...
اذا أردنا الكرامة والشرف والعزة؛
هناك طريق واحد فقط...
نموت واقفين ولا نركع!
الحياة وقفة عز...
نكون او لا نكون...



