جميعنا مررنا بتجربة الملل، تلك الحالة التي تتراجع فيها المحفزات الذهنية ويقلّ التركيز، فنشعر بالضجر أو التململ. سواء كنا نشاهد فيلما مخيبا أو نسمع طفلا يتذمر بأنه "لا يوجد ما يفعله"، أو نسرح خلال اجتماع طويل، فإن الملل حالة إنسانية عالمية.
وغالبا ما يُنظر إلى الملل على أنه شعور سلبي ينبغي تجنبه، لكن هل من الممكن أن يكون له جانب إيجابي؟ وهل يمكن أن يكون تَقبُّل الملل مفيدا لنا؟
- كيف يتفاعل الدماغ مع الملل؟
الدماغ يعمل من خلال شبكة من المناطق المتصلة، أشبه بمدينة مترابطة بضواحيها وطرقاتها العصبية، عند الشعور بالملل – مثلا أثناء مشاهدة فيلم غير مشوق – تبدأ شبكات دماغية معينة بالتفاعل:
شبكة الانتباه تنشط في البداية لتمييز المحفزات ذات الصلة، لكن مع تراجع الاهتمام، تقلّ فعاليتها.
شبكة التحكم التنفيذي الأمامية-الجدارية تُظهر انخفاضا مشابها في النشاط نتيجة صعوبة الحفاظ على التركيز.
شبكة الوضع الافتراضي تنشط عند تراجع الانتباه، وتحوّل التركيز نحو التفكير الداخلي والاستبطان، وهي إحدى وظائفها الأساسية.
- تفاعل مناطق الدماغ مع الملل
هذا التفاعل المعقد يشمل مناطق أساسية في الدماغ:
الجزيرة الدماغية (Insula): مسؤولة عن معالجة الإشارات الحسية والعاطفية الداخلية، وتُظهر نشاطا متزايدا عند إدراك الشعور بالملل.
اللوزة الدماغية (Amygdala): أشبه بجهاز إنذار داخلي يعالج المشاعر السلبية المرتبطة بالملل.
قشرة الفص الجبهي الإنسي البطنية: تحفزنا على البحث عن أنشطة بديلة أكثر إثارة.
- الملل مقابل فرط التحفيز
نعيش في عالم يعج بالمعلومات والتوترات، وقد أصبح نمط الحياة السريع هو القاعدة، يملأ البالغون جدولهم بين العمل والأسرة، بينما يُغرق الأطفال بأنشطة لا تنتهي، وحتى في أوقات الفراغ، نلجأ إلى الشاشات لنملأ الفراغ.
هذا النمط يؤدي إلى فرط تحفيز الجهاز العصبي، فالجهاز العصبي الودي، المسؤول عن استجابة "الكرّ أو الفرّ"، يبقى في حالة تنشيط مزمن بسبب الضغوط المتكررة، مما يؤدي إلى ما يُعرف بـ"التحميل الألوستاتيكي" (Allostatic Overload) – وهو حالة من الإرهاق العصبي المزمن ترتبط بزيادة خطر القلق.
في هذا السياق، يُعدّ الملل وسيلة طبيعية بسيطة لإعادة ضبط الجهاز العصبي.
- هل يمكن أن يكون الملل مفيدا؟
عند التعرض له بكميات معتدلة، يوفر الملل توازنا مهما في مواجهة عالم مفرط التحفيز. وإليكم بعض فوائده النفسية والعصبية:
تعزيز الإبداع: يساعد على توليد أفكار جديدة وبناء "تدفق ذهني".
تنمية الاستقلالية الفكرية: يشجع على البحث عن اهتمامات جديدة بدلا من الاعتماد على المحفزات الخارجية المستمرة.
تحسين تنظيم المشاعر وتعزيز الثقة بالنفس: الوقت غير المهيكل يسمح لنا بالتواصل مع مشاعرنا الداخلية.
كسر حلقة الإدمان الرقمي: يقلل من التعلق الفوري بالمحفزات مثل التمرير المستمر على الهاتف.
إعادة توازن الجهاز العصبي: يهدئ الجهاز العصبي ويخفف من فرط التحفيز الحسي.
- احتضان لحظات التوقف الذهني
تشير الإحصائيات إلى تزايد القلق، لا سيما بين الشباب. ورغم جهودنا لتنظيم كل لحظة من يومنا، قد نكون بذلك نُقصي أوقات الراحة الذهنية الضرورية لإعادة شحن العقل والجسم.
علينا احتضان لحظات التوقف، فهي المساحة التي يزدهر فيها الإبداع، وتنتظم فيها المشاعر، ويستعيد فيها الجهاز العصبي توازنه.

