في حين تعود أصول الحياة إلى نحو 3.7 مليار سنة، فإن السؤال الكبير الذي لطالما حيّر علماء الأحياء هو: كيف تحولت جزيئات بسيطة كالأحماض الأمينية إلى هذا الكم الهائل من التنوع الحيوي الذي نشهده اليوم؟ ومع أن نظرية داروين قدمت إجابة جزئية، فإن نباتا متواضعا يُدعى "بيتل ويد" (Galax urceolata) أثبت أن الطريق نحو التنوع قد يكون أسرع بكثير مما كنا نعتقد.
- الطريق السريع نحو ظهور أنواع جديدة: التعدد الصيغي الذاتي
بينما يحتاج الانفصال النوعي الكلاسيكي إلى آلاف أو ملايين السنين، تقدم النباتات خيارا تطوريا فوريا يُعرف بـ"التعدد الصيغي الذاتي" (Autopolyploidy)، وهو آلية تقوم خلالها الخلايا التناسلية بمضاعفة عدد الكروموسومات، لتمنح النبتة الناتجة مجموعتين متطابقتين من المادة الوراثية.
هذه الظاهرة لا تؤدي فقط إلى زيادة فورية في التنوع الجيني، بل تمنح النبتة أيضًا قدرةً على التمايز الوراثي عن الأسلاف، واللافت في هذه الحالة هو أن "بيتل ويد" يمكنه إنتاج ذرية ذات عدد كروموسومات مختلف عن الأصل، ومع ذلك تستطيع أن تتكاثر، وإن كانت ذريتها الجديدة تواجه صعوبة في البقاء.
- كسر القواعد: أنواع متعددة تعيش جنبًا إلى جنب
لفترة طويلة، افترض العلماء أن التعدد الصيغي الذاتي ظاهرة نادرة وأن النباتات الناتجة منها غير قادرة على البقاء، فضلًا عن عدم قدرتها على التعايش مع الأنواع الأصلية. لكن دراسة جديدة أجرتها الباحثة "شيلي غاينور" في جامعة فلوريدا قلبت هذه المفاهيم رأسا على عقب.
من خلال دراستها لنبات "بيتل ويد" في جبال الأبلاش، اكتشفت أن نبتة واحدة قد تحتوي على ثلاث صيغ صبغية مختلفة، تُعرف بالـ"سيتوتايب"، تعيش ضمن نفس المجتمع النباتي. فهل يمكن لهذه الصيغ أن تتعايش على المدى الطويل؟ وهل ستهيمن إحداها على الأخرى؟ هذه الأسئلة كانت محور الدراسة التي نُشرت مؤخرا في مجلة The American Naturalist.
- النمذجة الرياضية تغيّر قواعد اللعبة
اعتمد فريق الباحثين على نموذج رياضي متطور لمحاكاة ملايين السيناريوهات البيئية على مدى آلاف السنين، مع مراعاة عوامل حاسمة مثل الكثافة السكانية، العشوائية البيئية، تداخل الأجيال، والعزلة الإنجابية غير الكاملة.
وقد كشفت النماذج أن الظروف البيئية غير المستقرة تُفضل بقاء النباتات المتعددة الصيغ الصبغية، بل وتسمح لها بالتفوق على الأنواع الأصلية ثنائية الصيغة الصبغية. لكن في كثير من الحالات، أظهرت النتائج أن كلا النوعين يمكن أن يتعايشا لفترات طويلة، مما يدل على مرونة كبيرة في البنية الوراثية للنباتات البرية.
- نتائج تغيّر فهمنا للتطور والحفاظ على الأنواع
تكشف الدراسة عن دور كبير للنباتات المتعددة الصيغ الصبغية في تشكيل النظم البيئية، بعد أن كانت تُعد مجرد شواذ تطورية. فأنواع مثل "البلوسيتيم الكبير" و"الحور المرتجف" هي أمثلة على هذا النمط من التعدد الوراثي، الذي يعزز من قدرة النظم البيئية على التكيف مع التغيرات البيئية المتسارعة.
وتقدم النتائج أيضا رؤية جديدة للمحافظة على التنوع البيولوجي، عبر التركيز على فهم كيفية بقاء هذه الصيغ الوراثية المتعددة واستقرارها في ظل تغيرات المناخ والضغط البيئي.
ما اعتبره العلماء ذات يوم شذوذا تطوريا، بات الآن جزءا أساسيا من فهمنا لكيفية عمل الطبيعة. نبات "بيتل ويد" يُثبت أن الطبيعة لا تتبع دائمًا القواعد التي نضعها لها، بل تبتكر مساراتها الخاصة نحو التنوع والتجدد.


